العلاّمة القدوة

كان يشدّني بالعلاّمة السيّد هاني فحص ضرب من الصداقة متميِّز بالإخلاص والثقة والمودّة الصافية.

وكان إذْ يحدّثني بكثير من الإشارات الضافية إلى محطات دالّة، من ماضيه الغني بالأحداث والمواقف والتطورات.
من حديثه الممتع في سيرته، كان يستوقفني ما يشير إلى كثرة تنقّله في جهات هذا العالم الشاسع. لعلّ البداية كانت في سفره من مسقطه الدافئ جبشيت وشتلة التبغ إلى النجف حيث أمضى في حوزاتها العلمية سبعة أعوام ونيفاً، ثم عاد منها حاملاً إجازة في اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية، لقد عاد إماماً لمسجد قريته جبشيت «مقرِّراً منذ البداية أن يكون شريكاً للمأمومين لا حاكماً عليهم». ومن الأساس شعر بنزوعٍ أدبي يطل على الاجتماع والسياسة، وهذا ما عرفه الناس فيه باكراً.
من هنا انعقدت علاقة صداقة ومودّة بينه وبين طليعة شابة من أدباء الجنوب وشعرائه، وسرعان ما سعى إلى إنشاء منتدى جبل عامل ولكن المميَّزين الذين شكّلوا هذا المنبر، لم يلبث عدد منهم أن ذهب إلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي استقبله على منبره في بيروت، غب دورة الأيام، محاضراً في «مشروع رؤية للخروج من حصار الحزن في عاشوراء»..
«وما هي إلا أشهر» يقول سماحة السيّد، «حتى تآلفنا فمان عليَّ أهل المجلس ونسّبوني إلى الهيئة العامة ثم اختاروني عضواً في هيئته الإدارية..» لقد حصل ذلك، تحديداً، في اليوم الحادي عشر من شهر أيار العام 1975 وفي هذا التاريخ المحدَّد عينه أجمعت الهيئة الإدارية ذاتها على اختيار حبيب صادق أميناً عاماً للمجلس خلفاً للقاضي زيد الزين نجل المرحوم الشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة «العرفان».
وقبل هموم الأدب والشعر وشواغل المنابر الثقافية، وبالتزامن معها، كان همّ فلسطين وشاغلها يستأثران بوجدان وفكر سماحة السيّد، وهو وإن حصد من دوره الطليعي في انتفاضة مزارعي التبغ فهماً جديداً لعلاقة المسألة الاجتماعية بالحراك السياسي، فقد ازداد اقتناعاً بأنّ فلسطين هي المشكلة وهي الحل. من هنا بادر إلى عقد صلة تعاون وتناصر مع حركة فتح الفلسطينية.. ومن وراء هذه الصلة «اهتدى إلى إطار نضالي يشرف عليه أبو جهاد بالتشاور مع أبي عمّار» ومن هذا الإطار دَلَف إلى «الكتيبة الطلابية».
في هذه المرحلة انفجرت الثورة الخمينية في إيران. وقبل نجاح هذه الثورة كان السيّد «قد انخرط فيها وأصبح جزءاً من فريق عمل الإمام الخميني في الخارج» وهذا «ما أملى عليه أن يكون ضابط ارتباط بين حركة فتح والثورة الإيرانية». وبعد نجاح الثورة انتقل سماحة السيّد مع أبي عمّار وآخرين في أول طائرة، من بيروت إلى طهران عبر دمشق.
ولكن سرعان ما اضطربت العلائق بين الطرفين نتيجة طبيعية لتناقض المصالح، من هنا «اضطرب دور السيّد كضابط ارتباط فآثر السلامة بالتخفيف من هذا الدور مع الحفاظ على علاقته بالطرفين»… إلى أن اشتعلت الحرب بين العراق وإيران فسارع السيّد إلى الوقوف إلى جانب إيران بما يتعارض مع موقف القيادة الفلسطينية…

تنقله في المكان

في ما تقدَّم من قول أشرت إلى أنّ ما استوقفني، في مسيرة سماحة السيّد، كثرة تنقّله في المكان، وجاء ارتباطه العقيدي والسياسي بكل من فلسطين وإيران ليضاعف من رحلات الانتقال مِن إلى ومِن إلى. وبعد إقامة ثلاث سنوات، مع أسرته الكريمة في طهران عاد إلى لبنان برؤية جديدة كان من شأنها أن أفسحت أمامه المجالات في الداخل والخارج، ما اقتضاه إلى التنقل في المكان بصورة استثنائية لا يظفر بها رجل دين آخر، خصوصاً عقب انخراطه في هيئات ومؤسسات داخلية وخارجية كثيرة نذكر منها مثالاً لا حصراً: المؤتمر الدائم اللبناني، مجلس كنائس الشرق الأوسط، مجلس الكنائس العالمي، الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مجلس أُمناء مؤسّسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية، هذا إضافة إلى الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى…
ما يستوقف المرء المتابع، بإكبار، إسهام سماحة السيّد بمسؤولية في أعمال كل تلك المؤسسات والهيئات من غير أن تؤثر سلباً على قلمه الثّر، فهو لم ينقطع أبداً عن الكتابة في الأدب والشعر والفكر والإسلاميات والمذكّرات والحوار. لقد صدر له، لتاريخ اليوم، أربعة عشر كتاباً ولديه ثمانية كتب غير مطبوعة بعد. يضاف إلى ذلك أنّه يواصل الكتابة، دون انقطاع، في المجلات والصحف العربية.
وبعد فإنّ ما أتينا على ذكره في ما تقدّم من كلام لا يلمّ، إلماماً تفصيلياً شاملاً، بمكوّنات شخصية العلاّمة السيّد هاني فحص وخصائصه. فهو، بالرمز، قدوة متألّقة، في الانفتاح والتواصل وتعميم الأفكار وطرح الأسئلة، وهو، من ذلك، داعية حوار بارز بين الإسلام والمسيحيّة، إضافة إلى كونه منظّراً فذّاً في مجال مقاربة الإسلام لطروحات العصر ومقتضيات الحداثة.
وأخيراً قرع جرس الرحيل عن هذه الدنيا فكان الأمر مفاجئاً ولاذعاً لأنّ عمره لم يتجاوز، بعد، تخوم الكهولة ولأنّ قدرته على الإنتاج المتنوّع لم تزل في مرحلة الخصوبة والفيض.
ولكن ما أنتج أدباً وفكراً وتاريخاً وحواراً نهضوياً وحركة تنويرية من شأنه أن يحجز للراحل الكبير مكاناً متقدِّماً في روضة الخالدين.

السابق
رجل الاعتدال والحوار
التالي
سيّد فكر تنويري وتحرري