هانوي والتبغ والسيد هاني فحص

هاني فحص

«… ريثما نعود الى اتقان القراءة والكتابة ونصبح من الشعوب القارئة شرطا لاستحقاق الكتابة التي يقل فيها الغث والزبد ويكثر فيها النافع القابل للمكفّ في دورة انتاج المعرفة..»، قالها المثقف المعمّم، في موسم توقيع كتابه (اقتراض الشعر لا قرضه) في معرض الكتاب الدولي في «بيال» العام الماضي 2013م، السيد هاني فحص رجل الدين المتهم بالشعر رغما عن انفه والذي دخل المحراب على صهوة الأدب، التقينا في القاعة على هامش الندوة وتبادلنا ارقام الهاتف والبريد الإلكتروني، كما يحصل عادة في كل لقاء، واتفقنا على تبادل اصدارات ونصوص مفيدة. وفي لقاءات مستعجلة دائما، وخاصة يوم حضر لتقديم العزاء بوفاة القائد ابو ماهر احمد اليماني وايضا الحكيم جورج حبش، ربما يستلهم من الرحيل الرجال بعضا من أحلامهم، كيف كان هو أيضا الملاحق بشبهة اليسار على خلفية الحركة المطلبية للفقراء، ولمزارعي التبغ، يأسرك فكره المتنور في تأكيد علاقته بالمقاومة نقدا وودا، أو تمرده ولكن المعتدل، المبني على فلسفة قبول الآخر واحترام الرأي المقابل، جدلية الحوار التي غرستها حوزات النجف الاشرف واعطته نكهة فلسطينية حين يخطو في زمن الهزيمة بثقة مقاتل وبفكر فدائي تغييري. ما زال وقع ابتسامته الحارة التي تخفي أحساسا مكبوتا بالخسارة ويسرد بشغف عن بدايات لا يندم عليها، من انكسار الأحلام ومرارة النكسة التي جعلته يفكر بكل شرايينه بكيفية محو العار بدون المقاومة وان طريق الثورة يتسع لمن يؤمن بفلسطين، بعض من ملامح لاهوت التحرير، الذي اسماه انه البديل المطلوب للاهوت التبرير والذي تحول في نهاية المطاف على يد التعصب والانغلاق والتخلف الى لاهوت التكفير.

الفلسطيني

حين صادفته بمناسبة فلسطينية، قص على مسامعي كيف ولماذا وجد في حركة فتح ضالته، كونها الحركة التي يجد نفسه فيها وهو بعيد عنها، ولا يجد ان هناك قيدا تضعه فيه مما اوجد صيغة التنظيم اللبناني/ الفلسطيني في صيغة نضالية لهوية اعتبرها اكثر اندماجا بين صيغة الانتماء لهوية والنضال المشترك من اجل قضية، لينطلق في نسج خيوط ثنائية معقدة في قماشة تصالحية جديدة من مركب الاسلام والعروبة وفلسطين، ببعديه الطبقي والقومي ومن خارج الاسلامية التقليدية السائدة «الاخوان المسلمون وحزب الدعوة».
اخبرته اني اعجبت بجملة قالها في احد مقابلاته الصحافية الهامه وهي أنه بعد نكسة حزيران «بدأنا نبحث عن نصر»… هز رأسه وردد «ما زلنا نبحث عن نصر»… قد يكون التفكير لحظتها مستحيلا وبحثا يشغل رجل دين صاحب عقل صاف من فضاء التبغ ولدت الارهاصات الاولى لأدباء جبل عامل ومن يومها لم تكف دورة انتاج المعرفة عن التوقف، أخذت عنده الكلمة قداسة «الارض» فكانت نشرة ابناء الزوفى وندى الجنوب الى برقوق الجليل وعطر برتقالها، انتقد ممارسات خاطئة وبقي مع فلسطين، كان يعود ويؤكد ان الثورة لم تختر أن تطلق المقاومة من تخوم فلسطين، وليس من داخلها. يعرف بفقه الثوري النقدي أن المثلث كان يجلس على رأسه، وان مصدر الخطأ هو نكبة اقتلاع شعب من أرضه على ذلك، وليس غريبا ان تكـون المخيـمات في سوريا ولبنان وقبلها الأردن هي الحاضنة الدفيئة لها.

الفكر النقدي

بفكره النقدي سجل السيد هاني فحص انحيازا لمفهوم الدولة على الثورة، محافظا على مساحة للحوار في كل فكرة ألقاها، وهو الاحرص على الاستماع لصداها، لمن الاولوية للبنان القوي الموحد المستقر أم لفلسطين المحررة؟ هل حرية فلسطين هي مفتاح حرية المنطقة أم العكس صحيح؟ المفكر المشاكس هاني فحص انحاز لفكرة ان حرية الشعوب هو الطريق لحرية فلسطين. كما هو سؤال «البحث عن نصر» ما زال يتردد والبحث مستمرا وكما قال مؤخرا «المصيبة ان تقلد الشعوب انظمتها في الكف عن انتاج الحرية..» عندها يتكرر السؤال مثل استعادة الحديث عن هانوي العربية اي العاصمة العربية التي تشكل ركيزة استراتيجية للمقاومة، وبعد كل حرب او انتفاضة او فعل مقاومة، هكذا فان المعادلة اختلفت كليا، لأن اختيار طريق الثورة من خارج حدود فلسطين صار يعني تصويب العلاقة بين الشعوب وحكامها وحفظ أوطانها ونسيجها المجتمعي والوطني وكرامتها الوطنية وعلاقتها بفلسطين، بذلك تكون هانوي بالمعنى الرمزي الذي يسند شعب فلسطين وقضيته، ومن جهة اخرى انتقال مركز الصراع الى داخل فلسطين طرح بقوة.
هانوي الفلسطينية وليس العربية. الركيزة الكفاحية إلا أن المماثلة الدقيقة انها ليست في الجوار، عليها ان توجد في الداخل لتجد لها تلك الحاضنة العربية المفقودة رسميا والمربكة شعبيا حتى الآن. هي محاولة لاثبات ان قضية الخروج من الصراع ليست مسأله أرادوية، بل تفرضها حقيقية الصراع وطبيعة العدو الذي يجد ان دائرة الصراع مرتبطة بوظيفته الاستراتيجة التي تفوق تخوم فلسطين وجداراته العازلة. ربما المنطقة العربية بأسرها. هو من قال بصراحته المعروفة ان العرب اكتملت فضيحتهم بالصمت المريب أو الصراخ الخادع على تهريب ما تبقى من معنى القدس في حياتنا ووعينا ومستقبلنا.
يوم الحرب على غزة الصابرة كما اسماها كتب يناشد المقاومة والشعب بمزيد من الوحدة. قال هرتزل «كل شعب ينقسم الى شعبين يصبح في قبضتنا»، الوحدة هي الرد وسبقها بتحديد الخيار بقوله «غزة في عهدة اهلها.. صاروخا وخطابا واقتراعا دوليا في الامم المتحدة وليست المستأجرة كالثكلى».
قلت حين منحت جنسيتها أن فلسطين تستعاد كهوية وتعلن ميلاد لبنانيتك فيها وهي الآن في موتك تعلن فلسطين ميلادك.

السابق
رجل الحوار والاختلاف الجميل
التالي
حدثٌ وطني وعربي وإسلامي