عملاق متواضع

السيد هاني فحص

العلاّمة السيد هاني فحص شخصية مركبة استمتعنا برفقتها ردحاً من حوالي العشرين سنة، جمعتنا به وأتاحت لنا الاستزادة من علمه الجم وحديثه العميق وفكره النيّر وأنس مجالسته والاستمتاع بالشعر الرقيق، ولكن وأيضاً بانفعالاته التي، رغم أنها كانت تضعنا في مآزق محرجة، كانت تعطينا أيضاً أفضل ما عنده. هو بانفعاله، نقيض الخبث والبغضاء. دليل العفوية. مؤشّر الصدق. لا يضمر إلا محبّة. ولا يظهر إلا مودّة.

هو الذي هَمَسَ لي يوماً قائلاً: «خاطري مسلح، ولكن سلاحي ظاهر جداً وسريع الطلقات .. ولا يقتل .. وقد يقتلني اذا أدركت أني آذيت حبيباً». وعليه أجيب اليوم: كم كنا بحاجة إليك بيننا في هذه الأوقات العصيبة التي يمرّ بها لبنان والمنطقة. أفكارك لطالما كانت قديرة على الصهيونية والطائفية والمذهبية، ولعلّها اليوم تقوى على الداعشية. بك ومعك وبسلاحك هذا تحلو المعركة كما كنا ونبقى معاً في كل معركة.
كنا مجموعة في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، انطلقنا في العمل بعد قراءة موضوعية لواقع العلاقات الإسلامية المسيحية ودراسة سبل تطويرها، بلوغاً لتوسيع ثقافة الحوار وقبول الآخر على قاعدة الاختلاف والإقرار به والاحترام، وعلى الحرص على صيانته ليس فقط في لبنان بل وأيضاً في بعض الدول العربية حيث يتشكل النسيج الوطني فيها من مسيحيين ومسلمين.
رفاق درب جمعنا الهمّ القائم على هشاشة مجتمعاتنا المتنوعة وصعود لغة التهديد والعنف والتطرف ووأد أصوات الاعتدال والوسطية. وهذا الهمّ الذي حملناه منذ عشرين سنة لم يكن بقدر همنا كلما تقدمت الأيام وتنوعت النزاعات وتمادت الأحادية والاستغلال لفسوخات مجتمعاتنا التي ظهرت هشاشتها بعدما فشلنا في بناء هذه المجتمعات على قواعد تعميق الممارسات الديموقراطية وإعلاء لفكرة المواطنة وتقديم الولاء الوطني والقومي على الولاء الطائفي والمذهبي.
إننا نستذكر بدايات عملنا سوية عندما كان طموحنا لا يسعه العالم العربي بعد نجاح مبادرتنا إلى عقد لقاء «مسلمون مسيحيون معاً من اجل القدس»، وكان الهم القومي لا يزال مستعراً في نفوسنا وقَّاداً في أفئدتنا، ولأول مرة تُسحب قضية القدس من جوارير نسيان الأنظمة العربية لوضعها في إطارها التاريخي المسيحي ـ الإسلامي العربي. وكان السيد هاني حاضراً بفعالية في هذا الحدث وسواه من أنشطتنا المتعددة التي تلت هذا اللقاء.

رفاق درب

وحديثي هو عن السيد هاني وليس عن الفريق، ذلك أن السيد هاني كان يشكل الفريق جزءاً من نشاطه وليس كله ولكنه يعترف، كما أنا أعترف، أن الفريق بتشكيلته المتنوعة عربياً ولبنانياً كان مدرسة لنا تثقفنا فيها على الحوار وتعلمنا كثيراً منها من أعضائه، وكذلك المؤتمرات والاجتماعات التي لا تحصى وبمواضيع لا تعد.
رفاق درب كنا والسيد هاني رفيق يُفتخر بصداقته وزمالته، وكان لنا معه طول تعاون وارتباط كان من الطبيعي أن يتخلله انفعالات من الصعب ضبطها نظراً لفائض الحيوية والزخم اللذين يمتاز بهما السيّد، وهي بذلك ولذلك قد تركا فينا آثاراً عميقة لأنها كانت تأتي من رجل صادقناه بصدق وأحببناه بعمق ورافقناه بشغف، وخروجه خسارة للفريق ولكننا لم نخسره كصديق ورفيق وأخ ومنارة في العلم ولغة الدين السمح المنفتح على الحياة.
«هذه التجربة الجميلة (في الفريق العربي وعلى ضفافه)، والتي لا يقلل الجدل أو الغضب أو الانفعال، (انفعال كل منا أياً كانت حصّة كلّ منا …)، لا يقلّل من سموّها وسلامتها وقيمة محصولها»… شيءٌ.
لم تكن الأيام عادلة تجاه هاني فحص، وهذا شأن المتفوقين في وطننا الأصغر والأكبر. الوجاهة للتفاهة والمراكز للتابعين والمال للفاسدين وأي منها لا تستقر في حالة السيد هاني، فقد حباه الله شخصية لامعة آسرة وذكاءً مفرطاً وسيرة نقية وذاكرة، آخ من ذاكرة السيد هاني، الذي يستطيع أن ينشد مئات أبيات الشعر والأقوال الكريمة والأحاديث المأثورة ولا تنقطع ذاكرته أو يتوقف لسانه أو يضطرب عقله أو فكره.
قلة تعرف هذا الرجل الذي يذوب لطفاً ووداعة في برهة وينتفض منفعلاً في لحظة، في البرهة يبني حوله سياجاً من المحبة والصداقة والألفة وفي اللحظة يهدم أسوارها جميعها ولكن لا يضيع ما بناه، لأن من يعرف نفسية السيد هاني لا يتوقف كثيراً عند الانفعال.
لربما يقع عليَّ أن أعدد كتبه ومؤلفاته وأن أشير إلى مقالاته وأبحاثه أو إلى مداخلاته الإذاعية والإعلامية، أو إلى خطبه ودروسه أو إلى نشاطه وحركته، شدتني الكتابة عما هو أهم من كل هذا وذاك هو هاني فحص الإنسان الذي تجتمع فيه القوة والضعف والقسوة والحنان والوداعة والغضب. ذلك ان المنتج اهم من الإنتاج والمؤلف اهم من المنشورات هذا الإنسان المميز غير المقدر يستحق أن يكون مرجعاً ليس فقط للشيعة بل للمسلمين، لربما كانت الشيعية والإسلام في حال أفضل بعدما تمادت السياسة في الاستحواذ والطائفية في الاستتباع.

الأنس

ولعلّ الصفة الأميز في شخص هاني فحص، بعيداً عن كونه علاّمة، هو تواضعه الذي يشدّ إليه محبّيه منذ اللحظة الأولى للتعارف. تراهم أمام عملاق متواضع. يأنسون حديثه ويجرأون على محادثته بأي شأن. لا يلقي عليهم ظلال رجل الدين العابقة، بل يشدّهم في تواضعه وطرافة حديثه ووداد معشره، ولكنهم يكبرون فيه ومعه أيضاً. من هذا المنطلق فعباءة السيد هاني فحص كانت عباءة جامعة بكل ما للكلمة من معنى وكنا بحاجة أن نستظلها أكثر من أي وقت مضى.
أخذ من رجل الدين صفات الدين الحميدة وأخذ من رجال السياسة ما تبقى من صفات استقامة وجرأة وموقف قلّ نظيرها، حتى مازج في شخصه بل وفّق ما يجب أن يكون عليه رجل الشأن العام.
كم من مرّة استذكر اللبنانيون هاني فحص، إماماً شيعياً وازناً، يقف موقف حقّ يخالف فيه طائفة أو من يقبض على هذه الطائفة. كم من مرّة ناصر المسيحيين إذا ظُلموا أو قاوم محتلاً أياً كان عدواً أم شقيقاً.
أوليس لذلك أُبعد هاني فحص حتى أُقصي إلا عن وجدان اللبنانيين المشغوفين بسماعه مع قلّة إطلالاته التي، لعمقها وندرتها، تترك وقعاً وأثراً غير مسبوقيْن في النفوس. يثار التساؤل: هل يكون هاني فحص وقلة من الكبار أمثاله – مع الفارق بينهم -، آخر أئمة الشيعة الللبنانيين على خطى كبار من أمثال الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين والإمام المغيّب موسى الصدر بما لكل منهما من خصوصية ولكن الجامع المشترك بينهم هو جرأة الموقف وسماحة الرأي واتزان الشخصية وبعد الأفق وعمق التفكير وتشاركية الرؤى، حتى أضحى أمثالهم أئمة اللبنانيين أكثر منهم أئمة الشيعة.
وطن هاني فحص هو وطن الخير والجمال والحوار.
تراني، إن كنتُ أكتب عنه وفيه، ما جمعنا في السرّاء والضرّاء، ليس فحسب لوضع نصّ متحرّك ينبض بالحقّ أمام القارئ وينأى عن التزلّف ممّا ألفته الكتابات حتى ابتعد القراء عنها. بل أكتب عنه على هذا النحو لأني مثله أسعى إلى الصدق، واللغة الواحدة الحيّة، لا اللغتين، ولا اللغة الخشبية.
هو من ناداني يوماً بأجمل ما في الكلام. ممّا يصعب على الكلام. قال: «يا صديقي، يا مرآتي…». وأنا معه أردّد القول عينه. أما بعد، فهل تفترق نفسٌ جميلة عن مرآتها؟
يا سيد هاني، مجتمعك الشاخص إلى أفكارك المبدعة الخلاّقة في زمن الشحّ الفكري والتعصّب الطائفي اللاديني بشيء، زمن الدواعش وإخوانهم ونظرائهم ممّن لا يقهرهم سواك وأمثالك، مجتمعك سيفتقدك: كيف تركت المرض يقهرك. كان ثمّة ما هو أهم تصارعه فتصرعه. ليس وقت المغيب.

السابق
السيد الذي يصالحك مع فكرة «رجل الدين»
التالي
قبل.. وبعد الرحيل