سيّد فكر تنويري وتحرري

رحل السيد الجليل هاني فحص، أحد الشخصيات الفكرية التنويرية العربية والإسلامية، وهذا الفكر التنويري هو امتداد لثقافة التنوير والحداثة ومقاومة الاستبداد، والدعوة الى الحكم الرشيد، والتحرر الوطني، ورموز هذا التيار رجال دين أشعلوا جذوة عصر سمّيناه عصر النهضة، كان في مقدمتهم: جمال الدين الأفغاني، الشيخ محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، وكوكبه من المفكرين والمصلحين، والمجددين.

وعلى هذا الطريق، وخصوصاً التحديث، وتعميق الحوار الإسلامي المسيحي، والانحياز لخيار المقاومة والتحرر الوطني، وللمطالب الشعبيه والانتصار للفقراء والمحرومين، على هذا الطريق كانت مسيرة السيد هاني فحص في حياة حافلة في تجديد الفقه، وربط الدين بالحياة وبحوار الحضارات، والحوار الإسلامي المسيحي، وبالدفاع عن القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، وفي الانخراط بالحياة الثقافية اللبنانية والعربية، ويتجلى إبداعه في العديد من الإصدارات والمقالات وميدانها الفكر والنقد الأدبي، وقضايا المسرح، ومسألة الهوية..الخ.
وأرغب هنا في ان أركّز على الجانب الكفاحي في مسيرته، وعلاقته بالقضية الفلسطينية، فلقد تعرّفت على السيد هاني عام1976في القاهرة عندما كنا ننتظر فتح مطار بيروت للعودة بعد أن أغلق بسبب الحرب الأهلية ودخول قوات الردع السورية الى لبنان، وكنت قادماً من الكويت بعد جولة عمل سياسي وتنظيمي في طريقي الى بيروت، التقينا في فندق أقرب ما يكون الى (بنسيون) اسمه فندق (اسكاربيه)، وكان هو قادم من جولة عربية لتسويق محصول التبغ للمزارعين اللبنانين في الجنوب، حاملا رسالة توصية لسفراء منظمة التحريرفي البلدان التي زارها لتسهيل مهمته، ومن المعروف أنّه شارك في العام 1972 في انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية.
علق معنا في الفندق عدد من الشخصيات الفلسطينية ينتظرون مثلنا فتح المطارللعودة الى بيروت حيث مركز القيادة الفلسطينية، ومن بينهم الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي خفف عنا عناء الانتظار بحديثه العذب وروحه الجميله.
أمضينا في الفندق ما يقارب الشهر، أمضينا فيه معظم الوقت معاً، أنا والسيد هاني وأبو سلمى، نخرج معاً الى مقهى (غروبي) أو مقهى (ملبّس) نشرب القهوة، ونلتقي بأصدقاء مصريين من العاملين في مجال الأدب والسياسة، ونتجاذب أطراف الحديث، ونعود في المساء الى الفندق.
عرفت في تلك الأيام السيد هاني فحص الإنسان والمثقف، ورجل الدين السمح الذي يطمئن القلوب، ولمست تعلّقه بالقدس والقضية الفلسطينية، وبالشخصيات التي عرفها من أبوعمار الى ابوجهاد، الى المناضل المصري محجوب عمر، الى المقاتلين البسطاء الذين زار قواعدهم وعقد معهم صداقات حميمه.
والمرة الثانية اذا لم تخنِّي الذاكرة كانت عام 1978 اذ التقيته في معسكر (عين الصاحب) بضواحي دمشق، وكان يشارك في دورة تدريب عسكريه ومعه بعض ابنائه، يرتدي لباس الفدائيين، ويومها شاهدت تطبيق برنامج الرماية، وكم كان بارعاً في التسديد، وخصوصاً في استعمال الآر.بي.جى.
يذكرني هذا الرجل الذي يرتدي زي رجال الدين في حياته العامة، والذي يرتدي زي الفدائيين اذا تطلب الأمر، يذكرني برجال الدين في أميركا اللاتينية الذين تجاوزوا مواقف الكنيسة، وانضموا الى الثوار الذين يقاتلون من اجل تحرير بلادهم من هيمنة الولايات المتحدة، على الرغم من أنّ الثوّار كانوا ينتمون الى اليسار، ويشاركون في مساعدة الأهالي وتوزيع المساعدات الغذائية، هذه الظاهرة أطلقوا عليها ظاهرة (لاهوت التحرير)، يذكرني السيد هاني فحص بتلك النماذج التي تكررت في الثورة الفلسطينية بشكل أو بآخر، والمطران كبوجي مثالا، والشيخ عزالدين القسام الذي فجّر ثورة1936 مثالا، وكيف يوظف الدين في الكفاح من أجل التحرر الوطني، الدين الوطني والشعبي لا الدين المتطرف التكفيري الذي يوظف الدين لخدمة الإرهاب والذي بدأ خطره يمس الاستقرار في كثير من البلدان العربية.
السيد هاني فحص انضمَّ الى حركة فتح وآمن بأهدافها في الزمن الذهبي للكفاح المسلح، وقام بأدوار هامه في الحياة الداخلية للثورة، وكانت هذه الجهود تتوجه نحو تعزيز العلاقات الفلسطينية اللبنانية على الصعيد الشعبي، وتعزيز علاقات منظمة التحرير مع قوى الثورة الإسلامية، ودوره معروف في ربط علاقة ياسر عرفات بالإمام الخميني وترتيب لقاء بينهما في باريس قبل عودة الإمام الى إيران، ومن ثم مرافقة ياسر عرفات عشية وصول الخميني الى طهران في أول زيارة يقوم بها زعيم عربي للثورة الإسلامية.
ولم تنقطع صلة السيدهاني بالقيادات الفلسطينية رغم تحفظاته على الكثير من السياسات بعد توقيع اتفاقيات المبادئ في ما عرف باتفاقيات أوسلو، وهو يشارك بنشاط في مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية، وتربطه صداقات حميمه مع الشخصيات الوطنية والثقافية، ويحظى بالاحترام والمحبة والإعجاب والتقدير من غالبية عظمى من جماهير الشعب الفلسطيني في الوطن ومخيمات الشتات.
لا تستطيع كلماتي في هذه العجالة أن تلم بحياة حافله عاشها السيد هاني فحص، وأن تتحدث عن دوره وجهوده وثقافته، وحسبي أن أرسل مع هذه الكلمات تلويحة محبة فلسطينية صادقة من ذروة من ذرى القدس الى روحه الطاهرة، وقامته العالية علو وشموخ جبل عامل. رحل هذا المناضل والمفكر، لكن سيرته ومسيرته لم ترحلا، بل إنهما تبقيان نموذجاً وأمثولة تدعو الى التأمل، وتبعث على الإعجاب.

السابق
العلاّمة القدوة
التالي
تعلم من الإسلام أن يقر بفضل المسيحية