رجل عاش بيننا

أخيراً تحقق النذير ورحل السيد. أيقظنا ذلك على ما خسرناه برحيله. ففي ظل هذه العصبيات المنبعثة أو المتدهورة إلى نعرات مسمومة لن يكون سهلاً أن نفتقد صوتاً كان يقف بين الجميع ويرد الجميع عن بعضهم بعضاً. لن يكون سهلاً أن نفتقد مثالاً لرجل الدين لا يبتعد كثيراً عن رجل الحياة. لن يكون سهلاً أن نجد رجل دين جذوره في بلده وبين ناسه ولا يتطلع إلى عواصم أخرى ولا يستوحي بلداناً أخرى.

تحقق النذير ورحل السيد، لن نقول إن الوضع امحل بغيابه. لن نقول على غرار حافظ إبراهيم أن الأرز انهد والجبل تهدم والبحر غاض لكننا نقول إن إنساناً طيباً، قدر أن يبقى طيباً في زمن الكراهية المستشرية. سنقول إن إنساناً بصيراً بقي بصيراً في زمن العماوة والتسيب. سنقول إن إنساناً نزيهاً استطاع أن يحافظ على نزاهته في حين يطغى الفساد ويسود البلد من قاعه إلى قممه. سنقول إن إنساناً ذكياً ظل على ذكائه في أوقات البلادة والجهالة والتهافت. سنقول إن إنساناً صاحب مبادئ لم ينزل عن مبادئه وظل أميناً لها في حين أن الأمانة ثقيلة وقد عييت بحملها الجبال. سنقول إن رجلاً لم يكره جاره ولم ينقم على أخيه ولم يسخط على غير ابن جلدته ولم يعاد شريكه وصاحبه وصاحب مهنته. سنقول إن رجلاً لم يفرق بين الأديان ولا بين العصبيات ولا بين الأعراق ولا بين الأقوام ولا بين العشائر والقبائل ولا بين الهويات والمذاهب. قبل الأديان الأخرى ووسعها قلبه ووسعها نفسه. جاور بين العصبيات ولم يحولها إلى نعرة. سالم الهويات والمذاهب ولم يصانعها وإنما هفت روحه إلى كل معتقد وإلى كل مذهب مطمئناً إلى أن في الهويات والمذاهب وزنا معرفيا وروحيا وتاريخيا أكيداً. رجلاً لم ينكر الأعراق والأقوام ولم يتنكر لها وإنما وجدها سواء في إنسانيتها وسواء في غدها ومستقبلها وتبعاتها وأعبائها.
لن نقول إن الليطاني غيّض ولن نقول إن الأرز تزلزل وإنما نقول بابتسامة هاني فحص وبتواضعه وبنزاهته أن رجلاً عاش كالنسيم بيننا، رجلاً كان إنساناً كما ينبغي أن يكون الإنسان. رجلاً أحب بقدر ما يسعه الحب وحزن بقدر ما وسعه الحزن وآمن بقدر ما وسعه الإيمان وجاهد بقدر ما وسعه الجهاد واشتغل على نفسه وعلى غيره. على جاره وصاحبه وشريكه. رجلاً حيياً متواضعاً لطيفاً حبوراً فرحاً. رجلاً غاب ونحن نكرم فيه تلك القدرة التي لم تفسد تلك القدرة التي لم تتهافت، القدرة التي حفظت روحها وكبرياءها ومناعتها. القدرة التي أحبت الحياة وغمرها الفرح الكياني، فرح الوجود وفرح الجمال وفرح النقاوة. نكرم هاني فحص ونكرم فيه الأبرياء الأنقياء المتواضعين العارفين المجتهدين المحبين الفرحين، نكرم فيه اللبناني المفقود، اللبناني الضائع المتقاسم المتوزع المظلوم المهان المتعسف عليه، اللبناني المكسور المشتت المهجور المتروك. نكرم فيه لبناني الغد الذي نريده زاهياً. لبناني المستقبل الذي نريد أن نؤمن به كما آمن به هاني فحص، نكرم فيه الفرح الداخلي فرح النقاء والبراءة والنزاهة والعنفوان. نم أيها الصديق واغمرنا نحن فاقديك ببراءتك وفرحك.

السابق
سجال بين غطاس خوري وفارس سعيد يفجر ’14 أذار’؟
التالي
لم أتعظ منك يا سيد