الصورة والحياة الآخرة

احمد عبد اللطيف بيضون

لطالما استوقفني ما أصبح المصوّر يتمتّع به من سطوةٍ في الأعراس. والأعراس أذكرها من بين مناسباتٍ كثيرة: حزينةٍ أو فرحة أو غير معلومة المزاج أصبح المصوّر ملكها المتوّج. وهذا مع أن بعضها يحضر فيه ملك أو من هو بمثابة الملك. ولكنّ المصوّر الذي يمارس نفوذه بتحفّظٍ وكياسة في مناسبات العزاء، مثلاً، يبدو صلفاً متجبّراً في العرس ويجعل من العروسين طليعة ضحاياه أو عبيده. وكثيراً ما غدت تُعْرَض في العرس مَشاهدُ صوّرت قبله يظهر فيها العروسان على النحو الذي أراد لهما المصوّر أن يظهرا فيه بالضبط: يتعانقان حين يشار إليهما بذلك ويبتسمان بحسب الأصول المرعية في عُرْف المصوّر ويظهر لحركتهما حين يحدّقان في العدسة وهما يلصقان خدّاً بخدّ شَبَه بمصافحةٍ ما بين جون كيري وسيرغي لافروف مثالاً لا حصراً.
وقد يفيد العروسان من توغّلهما بين المدعوّين، على حلبة الرقص مثلاً، ليستعيدا شيئاً من عفويّة الحركة. ولكن المصوّر يفعل ما بوسعه للّحاق بهما إلى هناك أيضاً. تأتيهما العدسة من فوق، مثلاً، محمولةً على ذراعٍ آلية، جهنّمية الطول، تصيح بطولها: أين المفرّ؟ بل إنني شاهدتُ مؤخّراً في أحد الأعراس آلةَ تصويرٍ طوّافة، في حجم قبضة اليد، تطير وحدها فوق رؤوس المدعوّين وتصوّر…تصوّر! إلى هذا كلّه، تُفرض، في العادة، فقرة رقص بطيء للعروسين لا تنجو فيها غمضة عين ولا انتباهتها من حكم العدسة والامتثال، لا لما يفترض أن يشتهيه العروسان أحدهما من الآخر، بل لما ينتظره السيد المصوّر من كليهما.
وأما السند الذي ترتكز إليه سلطة المصوّر هذه فهو أن العرس زائل وأن صورَ العرس هي الباقية. بل إن الحبّ، إذا صحّ وجوده، والحياة كلّها زائلان ويبقى الشريط والألبوم. فهل الصور، من بعدُ، أثر يبقى من الحبّ والحياة أم هي قد أصبحت بديلاً من الحياة واستوت غايةً لبعضٍ من أهمّ لحظاتها فأصبحت هي، لا ما تُمثّله، ما هو مهمّ في تلك اللحظات؟ هل نصوّر العرس، مثلاً، لفرحنا فيه؟ أم نحن أصبحنا نقيم العرس لنصوّره فلم يبق له من معنى ولا لزوم إلا بما هو موضوع للتصوير خاضعٌ لاستبداد المصوّر؟ هل لا يزال يتاح لنا فرحٌ بلا مُخْرِجٍ ولا إخراج؟ وهل لا نزال قادرين على تذوّقٍ للحياة لا يخضع للعين الثالثة التي هي العدسة ولمديرها وآمرنا الذي هو المصوّر؟
ولعلّي لا أغالي حين أقول أن الحياة الآخرة هي خيرُ كنايةٍ عن المُراد بالصور وأن المصوّر هو، في أقلّ تقدير، شبيهٌ لرضوان أو للقدّيس بطرس: أي هو بوّاب جنّة الصور الأرضية. وهذه الآخرة – آخرة الصور – أيضاً تبدو خيرا لنا من الأولى. وما هي سوى نعيمِ الفُرْجة الأبدية على الصور وهو، بخلوده، يزري أيّما إزراء باللحظات العابرة التي اتُّخذت موضوعا للشريط أو للّقطات. الصورة ردٌّ على الموت إذن. ولكنّه ردٌّ بات يستهلك الحياة التي يجري تصويرها على غرار ما تستهلك الصلاة والاستغفار وأعمال البِرّ والتوبة، بما هي تهيّؤ لما بعد الموت، حياةَ المؤمن الراغب في الآخرة.
لازمني صدىً لهذه الخواطر التي كانت تلاحقني في الأعراس، على التخصيص، حين وجدتُني مضطرّاً، بدوري، للمثابرة على تصوير ما كنت أشاهده ومن كانوا معي في أثناء سياحةٍ منظّمة. وهذه (أي حال السائح المصحوب بمرشد) حالٌ ندر أن وجدتُ نفسي أَسِيرَها، في مدى عمرٍ طويل، على كثرة التجوال والسفر… في هذه الحال، يلفي السائح نفسه موزّعاً بين همومٍ ثلاثة، على الأقل: الإصغاء إلى شروح المرشد، تأمّل ما تتناوله الشروح وغيره من موجودات المكان، تصوير ما طاب للسائح تصويره. هذه أمورٌ متعالِقة يُفْترض أن يعزّز كلٌّ منها الآخَرَين. بل إنه ينبغي أن يكون فعلُ التصوير آخرَ عنقودها وقد أنضَجَتْه المهمّتان الأخريان. ولكن يفترض أن يكون هذا الفعل أيضاً أقلّها إثارةً لاتّصال ثمرته، لا بالإدراك الراهن، بل بما تصحّ تسميته الذاكرة المقبلة، أي لكون هذه الثمرة ثمرةً آجلة.
على أن ما يحْصُل فعلاً يأتي مُخِلّاً عادةً بهذه الترسيمة النظرية. وذاك أن ثمة أُقْنوماً رابعاً يُداخِل ثالوثَ المهمّات هذا هو أقنوم الوقت. والوقت ضيّق دائماً في الجولة السياحية. وذاك أن ما يخصّص منه لزيارة قصرٍ ملكي ضخم وعامر بالموجودات، على اختلافها، قد لا يكفي للتمعّن في جدارية من جداريات القصر أو في تفاصيل الرياش التي تضمّها جدران غرفةٍ واحدة. عليه يحصُلُ لك ما يأتي: بأُذُنٍ ساهمة تَلْتَقط كلماتٍ حاسمةً ممّا يقوله المرشد الهمام وبعينٍ ملهوفة تختار ما يستحقّ التصوير من موجودات المكان. هذا وأنت تتوسّع في الاختيار حتى لا يفوتَك ما قد تلوم نفسك على تفويته معتبراً، على الأخصّ، بكون التصوير بآلات اليوم أمست كُلْفةُ كثيرِه لا تزيد شيئاً عن كلفة قليلِه.
تأمّل في حالك، أثناء ذلك، وأنت على عتبة الخروج من غرفةٍ ما. لقد صَوَّرتَ، ولا ريب، ما أردتَ تصويره. ولكن هل شاهدتَ حقّاً ما أراد لك المرشد أو أردت لنفسك أن تشاهده؟ إن دقّقت في ما حصل ستدرك أنّك انتقيت زوايا وأشياءً للتصوير ولم تكد تشاهد ما صوّرْتَه إلا للّحظةِ التي احتجتَ إليها للإفتاء بضرورة تصويره. صوّرتَ أشياء ولم تكد تشاهد شيئاً لوجه المشاهدة. ولن تتذكّر من الجولة شيئاً، على الأرجح، سوى ما ستذكّرك به الصور. قال المرشد في الكنيسة: هذا ضريح فاسكو دا غاما. أهلاً بصاحبنا القديم، على قول فيروز! الضجيع في هذا الناووس ليس إذن مطراناً برتغالياً ما لا يهمّك من أمره شيء. إنه فاسكو التاريخ المدرسي الذي لم يضلّ الطريق البحرية إلى الحرير والتوابل، على غرار صاحبه الآخر. وبينا تُصوّرُ الناووسَ تعود إلى بعض أسئلتك القديمة: ما سرّ هذه الاستماتة في طلب الحرير؟ وهل يعدّ عاقلاً من يستشهد لأجل قبضة بهار؟
ولكن المرشد ابتعد وعليك أن تلحق به لتسمع ما سيقوله بصدد المذبح والملوك المدفونين قريباً منه. صوّرْتَ ناووس دا غاما إذن. ولكن هل شاهدته؟ هل حفظت شيئاً من التمثال المسجّى على غطائه أو من النحت الذي يكسو جوانبه؟ وحين تخرج من هذه الكنيسة هل ستكون قد زُرْتَها؟ أم انك صوّرْتَها لتَزُور الصورَ في ما بعد؟ وماذا عنك حين تخرج من هذه الرحلة؟… ستتذكّر أن المرشد، حين كان يمنح قطيعه عشرين دقيقةً حرّة، كان يحرص على القول: تلتقطون فيها ما تشاؤون من الصور!
وحين تخرج من حياةٍ صَحِبَتك فيها العدسات أو صَحِبْتَها: هل تكون قد عشتَ أم تكون قد صَوّرتَ وصُوّرْتَ؟ وأين ستقيم، بعد هذه الفانية، يا صاحِ: في جنان الخلد أم في ألبومات الحاسوب؟

السابق
القرضاوي يختلف مع داعش وضدّ استهدافها من قبل اميركا
التالي
الائتلاف السوري المعارض يتبرّأ من اللبواني لزيارته اسرائيل