كيسنجر: السلطة عقار مثير للشهوة الجنسية!

هنري كيسينجر

اذا كان هناك اي شكوك حول ما اذا كان هنري كيسنجر البالغ من العمر 91 عاما, والذي اجرى عملية جراحية في القلب في يوليو مازال يحتفظ بسلامة تفكيره, فإنه يرسل لنا ما يثبت ذلك, عندما يغوص في اريكة مكتبه بوسط المدينة في مانهاتن يفكر ويتأمل.

كانت الانباء عن الصحافي الاميركي الذي قطعت رأسه في سورية واردة لتوها, لكن وزير الخارجية الاميركية السابق الذي وضع نهاية لحرب فيتنام, واستهل عملية التقارب مع الصين, وصاحب سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفييتي »سياسة الوفاق«, كان واضحا تماما حول ما ينبغي علينا عمله, ويقول: »علينا شن هجوم شامل عليهم على أن يكون اجراء عقابيا لمدة محدودة« ووصف افعال الدولة الاسلامية »داعش« بأنها اهانة لقيمنا ولمجتمعنا تتطلب انتقاما كبيرا جدا, ولا يمكن ان يكون هناك جدال او مزيد من النقاش حول قتالهم!
كيسنجر يتهم ادارة اوباما: »بأننا جعلنا من انفسنا متفرجين في الشرق الاوسط حتى الآن, وهذا ما نلمسه في معظم الاهداف المعروفة, وانا لا اميز بين سورية والعراق, ففي رأيي ينبغي ان يحدث ذلك فعلا«, ويضيف: لا يمكنك ان تتخطى عذابات الناس, لتبحث فيما لا ينبغي عليك فعله, او ما يجب ان تقوم به, وسواء كانت سورية طرفا في المسألة, ام لم تكن طرفا فيها.
وهذا الاسبوع ستتم الطبعة 17 من كتاب كيسنجر »النظام العالمي« في كل انحاء الولايات المتحدة من ساحل الاطلس حتى ساحل المحيط الهادي. ومعظم ايام هذا السياسي الذي اصبح من المشاهير في ادارة نيكسون في البيت الابيض, مازال يقضيها في مكتبه بالطابق ,26 والذي تملأ حوائطه عشرات الصور داخل اطارات للشخصيات العالمية التي قابلها.
أعلن انه سيزور اوروبا قريبا, ويقوم برحلة مخطط لها الى الصين, ومؤسسته كيسنجر وشركاه فيها عشرات الموظفين في جميع انحاء العالم, ولديه قائمة عملاء واسعة وهي قائمة سرية للغاية.
في كتابه يقول كيسنجر:
مفهوم النظام الذي يساند هذه الفترة الحديثة ويدعهما هو الأزمات, والدول التي تزيح جانبا هويتها لصالح ما يبدو انه اقل مشقة, او الذين يفتقرون لستراتيجية جيوبوليتيكيه شاملة, سيحكم عليهم التاريخ حكما قاسيا.
واللقاء معه كان في يوم قائظ, ونظام تكييف الهواء يعمل بأقصى جهده, فاقترح كيسنجر بصوته الاجش, وبلهجته الالمانية التي لم يحاول اخفاءها ابدا, ان اخلع معطفي, وطلب من موظفيه جلب وعاء من الشاي محددا ان ضيفه الانكليزي يفضل الشاي مع الحليب.
امتدت براعته لمناقشتنا حول الموقف الحالي في البيت الابيض حتى الآن, وعندما سألته عن رأيه في السياسة الخارجية لباراك اوباما اطرق لمدة 20 ثانية قبل ان يقول انه: يشعر بالتعاطف مع حجة اننا نعيش عصرا جديدا.
ومع ذلك فإن أوباما, لا يقدر أن هناك دولا اخرى تتوق لأن تتولى اميركا قيادة العالم: »ليس لدينا القوة لكي نفرض ما نفضله, لكن بدوننا, وبدون قيادتنا لا يمكن ان تقوم للنظام العالمي قائمة«.
ان رئيس الولايات المتحدة لا يعرف ما الذي جعل فلاديمير بوتين زعميا لروسيا؟ ويضيف كيسنجر متهكما: انا لا اعرف ماذا كان التاريخ سيذكر لاوباما براعته في الفهم السيكولوجي للآخرين ام لا؟
لقد ذهب اوباما بعيدا عن رد فعله على عدوان بوتين على شبه جزيرة القرم واوكرانيا مع »زيادة طفيفة في التصعيد كل اسبوع, فترك الغرب مشدودا الى نقطة ان على روسيا ان تقبل باستقلال اوكرانيا ولا يمكنك قبول التعامل مع الحدود الاوكرانية على انها غير شرعية«.
في الوقت ذاته يجب الا تشعر روسيا بالاذلال واعتقد ان بوتين الذي قابله كيسنجر مرات يفهم التاريخ الروسي, وهذا لا يجعله على حق, وهذا لن يجعله لطيفا بالتأكيد, ليس من الممتع ان نعيش مع روسيا القومية لكنها ايضا ساهمت في التوازن, فقد انقذت اوروبا من تشارلز الثاني عشر, وضد نابليون وضد هتلر, ومن ثم علينا ان ننظر الى اهمية الكيان التاريخي لروسيا من وجهة النظر هذه, بالاضافة الى الاسهامات الحضارية الكثيرة التي قدمتها.
من المهم للولايات المتحدة ان تسعى لتشكيل الاحداث بدلا من ان تضعفنا هذه الاحداث, علينا ان نحاول الحديث بشكل اساسي مع روسيا ليس فقط لمعرفة كيفية ايجاد حل للمشكلة الحالية, ولكن لمعرفة اي نوع من العالم نريد؟!
»هل نحن نريد اوكرانيا موقعا ستراتيجيا لشخص ما؟ ام اننا نريد اوكرانيا حرة حتى ترسم بنفسها طريقها كجسر بين الشرق والغرب؟ واذا اتخذت هذا القرار, عندئذ ستعمل بكل جدية عليه.
قليل من رجال الدولة الذين ينظرون الى افعال بوتين في سياق الحقبة التي تلت الثروة الفرنسية, بغض النظر عن الملك السويدي الذي توفي عام .1718 يقلق كيسنجر من ان عصر تويتر والفيسبوك المحموم للدرجة التي لم يعد القادة يجدون الوقت الكافي لكي يفكروا تاريخيا.
لا يستخدم كيسنجر وسائل الاعلام الاجتماعية ويعترف بأنه لا يستطيع حتى الكتابة, ويتعامل مع رسائل البريد الالكتروني بأن يقوم موظفوه بطبع الرسائل ويقدمونها اليه, ويقوم هو »بالخربشة« »الكتابة« للرد على تلك الرسائل, ويقوم مساعدوه بتدوين تلك الرسائل على البريد مرة أخرى.
قام كيسنجر بزيارة لمقر غوغل في كاليفورنيا مرتين, واثنى على التقدم الهائل في التكنولوجيا وما تحققه من مزايا, لكن الجانب السلبي أن السياسيين يبذلون قصارى جهدهم لتكوين مفهوم عن العالم وعن أنفسهم, بينما يتواصل رد فعلهم واستجاباتهم للاخبار على مدار 24 ساعة يوميا.
من أجل أن تكون رجل دولة عظيما, يجب ان تتحلى بالحس التاريخي, ولديك رؤية للمستقبل, وهذا امر بالغ الصعوبة اكتسابه والحفاظ عليه في اجواء الضغوط التي تنزل على رؤوسنا.
جانب من الحجج التي اوردها في كتابه: »اننا ينبغي ان نعمق الممارسة المعرفية الحالية الى المستوى الذي تكون فيه اكثر توافقا مع التفكير النظري, وأقل توجها نحو العاطفة المتسرعة«.
ويخشى ان يستمر ذلك في الولايات المتحدة ويقول: »الخطر يكمن في وجود جهازين للانترنت مع كل من المرشحين للرئاسة, ويصبحان عموما ادوات لجمع التبرعات لتغذية هذا الجهد.
خدم كيسنجر في ادارات الرؤساء الديمقراطيين: جون ف. كيندي وليندون جونسون, وكذلك مع الرؤساء الجمهوريين: دوايت ايزنهاور ونيكسون, وجيرالد فورد, وكان يقدم النصح والارستشارات لرونالد ريغان وكل من بوش الاب وبوش الابن, والاسبوع الماضي ذكرت هيلاري كلينتون – التي قد تفوز برئاسة الولايات المتحدة القادمة, بأنها اعتمدت على استشاراته ونصائحه عندما كانت وزيرة للخارجية.
أوباما لم يسع اليه, واحيانا كان يطلب منه بعض الخدمات مثل توصيل رسالة الى رئيس اجنبي كان كيسنجر يقابله – لكن اوباما لم يستشره ابدا.
قد يكون سبب ذلك ان كيسنجر تعرض لتشويه سمعته لدوره في تفجير اهداف في كمبوديا خلال حرب فيتنام, واسقاط الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي في شيلي عام ,1973 والغزو الاندونيسي لتيمور الشرقية في عام .1975
كما ايد كيسنجر غزو العراق, ويصر على ان قرار جورج دبليو بوش, وتوني بلير بخوض الحرب تم بحسن نية, كانا مقتنعين بصحة القرار, وهما على خطأ, ويتساءل المرء: كيف تطور هذا القرار الى اجماع؟! لكنهما لم يكذبا بالقطع!
الآن يتنازل كيسنجر ويعترف بأنه كان على خطأ, برغم انه او اي شخص لم يكن لديه اي فكرة عن ان صدام حسين لم يكن لديه اسلحة دمار شامل, صحيح اننا نعرف ذلك الآن, لكن عندئذ لم يكن الامر كذلك, ولم يكن بمقدوري معرفته, ويمكن ان افعل ذلك مجددا بهذا المعنى.
أما عن الاتهامات الموجهة له من اليسار فيرد بأنها ليس لها اساس, وفي هذا الصدد يتخذ وضعا دفاعيا قويا, حيث يقول انه في وضعية ابو السياسة الواقعية الاميركية, غير مهتم بحقوق الانسان.
ولد هافيز ألفريد كيسنجر في بافاريا في العام ,1923 وهو يهودي الماني هرب الى الولايات المتحدة ويقول ان 50% من زملائه في المدرسة لقوا حتفهم في المحرقة »الهولوكوست« جنبا على جنب مع نحو 13 – 14 من افراد عائلته.
ويقول كيسنجر: »عندما تعيش في بلد كأقلية معرضة للتمييز, مستبعدا من الاماكن العامة, معرضا لكل انواع التفرقة, والعديد من عائلتك يقتل سيكون من المدهش ان تتجاهل حقوق الانسان.
لكن القدر وضعني في موقف حيث اصبح الامن الاميركي هو مهمتي, وما تستطيع قوله علنا كان محدودا عما يمكن ان تفعله في مجالات اخرى, لقد ساعدنا على زيادة هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي من 700 سنويا الى نحو 40.000 وقد فعلنا ذلك من خلال دبلوماسية هادئة بدلا من المواجهة العلنية مع موسكو.
عموما معظم المراقبين قبلوا ان الاشخاص الجادين يحاولون الوصول الى افضل النتائج وان نقاده كانوا من الجهلاء.
خذ مسألة قصف كمبوديا, هل تظن ان اي شخص يقول ذلك يعرف ما يتحدث عنه؟ وانا اعني ذلك فالهجوم كان على ملاجئ لفيتنام الشمالية اقيمت على اجزاء من كمبوديا, وقامت هانوي بغزوها واستخدمتها كمنصة انطلاق للهجمات على فيتنام الجنوبية, وهذا هو جوهر حروب العصابات, والتي ربما مارسها اوباما بشكل اكثر كثافة من نيكسون.
وأضاف بأن هذه الادعاءات الدائمة بأنه مجرم حرب, او معادي لحقوق الانسان, لا تشغله »فأنا في الواحدة والتسعين من العمر فما الذي سيصنع فارقا بالنسبة لي, وكم سيطول هذا الجدل, وكم سيستمر؟
قبل وصوله الى نيويورك في سبتمبر عام 1938 وقبل ان يصبح مواطنا اميركيا في العام ,1943 استقر كيسنجر البالغ 15 عاما آنذاك مع عمته التي كانت تدير احد البنسيونات في غولدن غرين شمال غرب لندن, لمدة اسبوعين.
ويقول: »سافرنا بالقطار من دوفر الى لندن, وادهشني اولا وقبل كل شيء, ان بمقدورك ان تمشي وتجلس بأمان, ففي ألمانيا تعرضت للضرب, وواجهتني لافتات التحذير, ايها اليهود انتم غير مرحب بكم هنا!«.
وقد عاد الى بريطانيا اثناء الحرب كجندي مشاة متواضع استقر بالقرب من سالزبري, حيث انبهر بالادب غير العادي, والعون الذي لمسه لدى البريطانيين حتى بعد ما قام بعض رفاقه من الاميركيين من اصل ايرلندي بالسخرية منهم.
وقال كيسنجر انه غير عابئ بخطب نيكسون المعادية للسامية, والتي كشفت بعد سنوات في الشرائط التي افرج عنها المكتب البيضاوي, انه بالتأكيد لم يعبر عن ذلك في سياق السياسة الخارجية, ولا في سلوكه الشخصي تجاهي!«.
وفي الليلة السابقة لاستقالة نيكسون في حالة الخزي بعد فضيحة ووترغيت في عام ,1974 اتصل بكيسنجر وقال له: »هنري انت لست يهوديا ارثوذكسيا جدا, وانا لست من الكويكرز الارثوذكسيين لكننا بحاجة للصلاة!«.
يقول كيسنجر: كان نيكسون لديه جوانب كثيرة التعقيد وبينها صراعات, لكنه توصل لحلول للسياسة الوطنية بسياسة متلاحمة وشجاعة.
من اخلص اصدقاء كيسنجر في واشنطن منذ الستينات من القرن الفائت, هنري براندون وهو رئيس مراسلي الصنداي تايمز في الفترة من 1948 – ,1983 وكان براندون ضمن مجموعة من المراسلين والمسؤولين الذين كانت هواتفهم خاضعة للتنصت بأوامر من مساعدي نيكسون. ولا يزال كيسنجر يشعر بالحرج عندما جاءه براندون لمقابلته في البيت الابيض وتساؤله عمن كان وراء التنصت الذي دام 21 شهرا, واكد كيسنجر له انه لا يعرف, لكنه اقر بأنه كان على علم بالتنصت.
ظلت صداقتهما قوية حتى وفاة براندون عن عمر 77 في العام ,1993 وقال كيسنجر ان تصرفات نيكسون حول التنصت كانت متناهية الصغر اذا قيست بما فعله الرؤساء الآخرون.
كيسنجر لديه خمسة احفاد اكبرهم يبلغ عمره 21 عاما, تزوج كيسنجر من نانسي منذ العام ,1974 لكنه رافق الجميلات مثل الممثلة كانديس بيرغن, وشيرلي ماكلين وليف اولمان التي وصفته بأنه الرجل الاكثر اثارة للاهتمام الذي التقيت به على الاطلاق وكان كيسنجر يمزج قائلا: اتمنى الا تفرض علي ضرائب لهذه الميزة.
لم تكن اهم ملاحظاته حول لقائه بالرئيس ماوتسي تونغ او الرئيس بريجينيف ولكنها ملاحظاته عن الجنس, فقال: السلطة هي العقار المثير للشهوة الجنسية!
واستطرد في ذلك: »عندما تتقلد منصبا رفيعا فإن ذلك يصبح مغريا جدا, لكن هناك تدهور في الشدة, فأنا مثلا »مدمن عمل« لذلك فأنا اعمل طوال الوقت.
يقول إنه ليس مستعدا بعد للتفكير في الكيفية التي ينبغي ان يتذكره بها الناس: »انا لم افكر فيما سيكتب على شاهد قبري«.
ويقول: »عندما سيقرأ اوباما كتابي, فلن تتم دعوتي للبيت الابيض!

 

السابق
’داعش’ انتقل إلى الدفاع ونهايته أصبحت وشيكة
التالي
قنبلة صوتية في الشرقية