رجل على الحافة

غالباً ما كنت أنظر إلى السيد هاني فحص على أنه رجل على الحافة، ولعله واحد من أولئك النازلين على الريح، الذين سلكت نفسي فيهم، وكتبت منهم وفيهم الكثير من الأوصاف، ورسمت البورتريهات المتعددة بالكلمات، من ذلك قصيدة «رجل طائر شجرة» و«ظل ملك» و«الرجل المؤجل».. وقصائد أخرى، إذ كان الرجل بالنسبة إلي ملهماً ومحرضاً على الكتابة. وهي مسألة حرصت في علاقاتي مع الأصدقاء، وهم قلة على كل حال، أن تتغلغل الصفات التي فيهم إلى ذاتي، وإلى مواضع الأسرار في هذه الذات، فلا أزجرها وأقول لها قفي بل امتزج بها وتكون الكتابة فيضاً من هؤلاء.

ومن نعومة أظفارنا، وأنا والسيد تربان أو نوشك، كنت أنظر إليه على أنه أكثر من رجل. على أنه رجل وأطيافه، ولعل أول لقاء لنا به، كان في قريته «جبشيت» في أول سبعينيات القرن الفائت، خرج إلينا وكنا ننتظره في صالون داره، وقد لبس قفطانه الأسود، ووضع عمته السوداء فوق رأس مستديرة بوجه أسمر، ولحية خفيفة وعينين متسعتين أكثر مما هما، يلمع فيهما مزيج من الذكاء والمودة والأدب، فقد كان داعينا إليه هو التعرف إلى كاتب جمعتنا معه الكتابة، وروح هذه الكتابة الشعر.
وقد كان مشهد رجل الدين الشاعر أوالأديب، مشهداً مألوفاً في جبل عامل، إذ غالباً ما كنا نقصد، في زياراتنا لبلدة «جبشيت»، المؤرخ المعروف والأديب الشيخ علي الزين، وغالباً ما كنا نصطحب السيد هاني إلى هناك، فنتبادل الأشعار والأخبار والنقد الذكي اللامع الذي يبدر من الشيخ علي… كل ذلك كان على رنات الكؤوس (كؤوس الشاي).
جلس السيد هاني في صدر الصالون، تماماً تحت صورة له معلقة على الجدار، وهي تصوره فتى يافعاً بعمامة على الرأس ونظرة شاردة. قال لنا ضاحكاً: هذا الفتى الذي ترونه في الصورة، هو أنا، وأنا لا اعرف ماذا في الأمر.
هل كان يقصد يومذاك، بقوله إنه لا يعرف ما «السيرة»، أنه لا يعرف الحال، والمصير، والمقدر، أو ما يجري في هذا العالم من حوله وحولنا؟ أم كانت واحدة من إشارات روحه المرحة، التي ما لبثنا أن تعرفنا إليها فيما بعد، والتي كانت تكسر ما يفرضه الزي الديني من تحفظ أو من وقار غالباً ما يحجبان عن الناس توهج الروح وسحر البديهة.
كان السيد هاني يومذاك، متوهج الروح وساحر البديهة، وكان يشبهنا نحن المرضى بالشعر شبهاً تاماً.. لذلك حين نظرت إليه على أنه رجل واقف على الحافة، تخيلت انه مرتفع مثل طائر أو مثل غصن، وأنه، وهو على الحافة، مهيأ للطيران، او للوقوع في هاوية، وأنه لو رسمته في بورتريه من خطوط وألوان، لرسمته بجناحين زرقاوين، وقوادم ترابية، وأن الجناحين يشيلان به إلى الأعالي، وذلك من خلال روحه الشعرية، أما القوادم فترابية بالضرورة وجمالها هو في ما انغمست فيه من تراب الحقول الجنوبية، وتبغ الفلاحين وعرق الكادحين. ولم يكن ثوب السيد هاني او عمامته يمنعانه من ان يجمع في كيانه هذين الحدين، فقد استطاع الرجل، بعد صراع مرير، أن يجذب الزميتين من رجال الدين، إلى مزاج الشاعر والفنان، وأن يمد خيوطاً من الحب والتعارف، إلى متناقضات شتى في المجتمع الجنوبي وفي المجتمع اللبناني، ومن ثم في المجتمع الإنساني، لذلك فإنه يصور نفسه، فيما يصوره، أنه، غير ملزم أن يدخل البيوت من أبوابها، بل يدخلها، كفنان، من الأماكن الأكثر رفاهة، ربما منى نفسه بأن يدخل من ثقب الإبرة إلى الفضاء الرحب، من ثغرة في جدار المنزل الأمامي أو الخلفي، إلى الخدر حيث تنام المعرفة أو تسهر، يوقظها أو يسهر إلى جانبها.. وربما كسر زجاج النافذة….
هذا شيء مما رميت إليه بالقول إن السيد هاني رجل يقف على الحافة. إن كمية التوتر التي تحرك قلبه وأصابعه وكلماته، تكاد تضيق عنها الكتابة.
تراه ينهال أحياناً في نصوصه كوابل من مطر، أو كوابل من حبات البرد حين تضرب الإسفلت أو الرأس أو الشجر. يرادف ويلح ويستطرد ويصرخ ويعنف ويلين ويغذ الخطى ويمشي الهوينا في كتابة حرة لا يليق بها سوى الشعر.
وهذه الكتابة على الحافة، التي يمارسها هاني فحص، هي محاولته للهروب من غربته الكثيرة. وغربة هاني فحص غربة طويلة وكثيرة. لعله حين قال لي في أول الشباب، عن صورته هي صورة من لا يعرف ما السيرة …. لعله كان يقصد الغربة. والوضع الذي يتناوله في كتاباته، من سيرة ذاتية أو غيرية، ومن تواصل مع الشعراء وأشعارهم (بعض أشعارهم) ومن كتابة القلق الديني والاجتماعي والسياسي…. لعل الوضع الذي يتناوله، بدوره، قائم على هذه الحافة من قلق المعرفة، وقلق اللغة، وقلق الحال، والحال هنا هو الوجد العميق الذي أدنى رتبته طقوس الدين، وأهم مراتبه العرفان.
لذلك، أنى لهذا الرجل أن يرتاح؟
كان اساس تعارفنا، من أول الشباب، ولا زال، هوأننا كنا في حياة مضطربة وعلى أرض متشابهة من قلق ونشوة، مصابين بنشوة الكلمات فيما هي دم العالم. كانت نصوص السيد هاني الأولى التي نشرها في احد اعداد مجلة «مواقف» في العام 1970، اقرب للقصة القصيرة ذات المخيلة الشعرية منها للقصيدة. وهو كان يعرف ذلك، وهو على الحافة، يقول: أنا لست بشاعر. لكن قال لي يا محمد علي هل تنام؟ ومتى تنام؟ وكنت أعرف من هذا السؤال أنه من الشعراء.
لم نكن، نحن المصابين بهذه اللوثة، وقد شكلنا نواة المنتدى الجنوبي بعد ذلك، نلتف حول هاني فحص، إلا لكونه مثلنا، يعيش في دائرة السؤال: ما هذا الذي نكتبه؟ ما هي القصيدة؟ ما الإيقاع والوزن واللاوزن؟
ما علاقة الكلمات وتراصفاتها بالقرى الجنوبية التي كنا نعيش فيها وننتقل من دار لأخرى لكي نتسامع النصوص والقصائد ونتجادل فيها وقل لنتصارع فيها…
وحين انخرطنا مع السيد هاني في تحركات مزارعي التبغ في النبطية، كانت القصيدة ترتجف في يدنا وتسأل مثل سؤال المزارعين، كيف وإلى أين؟ وكانت القصيدة في يدنا حين استشهد يوسف العطار في تظاهرة عمال معمل غندور…. لا ينسى السيد هاني جملة مما كتب وكتبنا. إنه يذكر كل شيء «يا سيدتي للورد وللحمى لون واحد والرب اثنان حرف في قاع النهر وحرف في الشطاّن أفهمت عذاب النهر إذا اغتربت عنه الشطاّن أفهمت عذاب الحرف إذا سكنته ملوك الجان أفهمت عذابي هل ابكي؟ افهمت عذابي هل أضحك؟ هل اقطع كفي قبل وضوء الفجر وأقذفها قهراً للشمس؟ خلفي تساقط أشلائي يكتظ الشارع بالغربان أتعثر بي أتوحد في كل الألوان يا مولاتي لا تكتئبي اّتيك وأعلم أني فيك وأنك أقرب من نفسي فلتنتظري في الليل خطى فرسي وخطى عربات الريح على الشطاّن ولتنتظري..» تجليات الورد والحمى قصائد مهربة إلى حبيبتي اّسيا».

أفق الثقافة الواسع

وإذا كان أفق السيد هاني منفتحاً، في الجنوب الذي ضمنا، للحياة، وللشعر، فإن ما جمعنا به، كأفراد وككتلة، على تباين بعض ما بيننا من النظر إلى الشعر وإلى الحياة والنضال، هو تلك النظرة المتحركة والمنفتحة معاً، التي نظر فيها الرجل إلينا وإلى الشعر وإلى الحياة معاً. وقد بقي محافظاً على هذه السياسة الفنية العالية (أساس الشعر) وعلى هذه الثقافة المنفتحة (أساس الحوار) وعلة هذا الفهم الحيوي للنضال (أساس المقاومة) بالمقدار الذي جعل جسر التواصل بيننا وبينه، لا ينهدم، بل يبقى متيناً برغم الأهواء والمصالح والنزعات. والسيد هاني من الكتاب القلائل الذين يدخلون إلى عقلك من طريق شعورك. كما أنه من أولئك الذين تسلس اللغة بين يديهم، ويتم تطويع المعنى لأسلوب نثري هذبه الشعر، وجلاه البيان. ومن أجمل ما قرأت له، مقارنة اجراها بين الثقافة والزراعة، يبين من خلالها نظرته للثقافة على أنها حقل تنفتح فيه المعرفة على غلال كثيرة في الفكر والشعور والأدب والدين والفلسفة. يقول:
«لا اجد ما يماثل الثقافة إلا الزراعة، بلحاظ أنها حوار بين اشياء ومستويات متعددة، من التربة ولونها وكثافتها وتركيبها، إلى الرياح ومصدرها واتجاهها وسرعتها، إلى الشمس وحرارتها والقمر ومنازله والندى وكثافته والبرق والرعد والمطر ومواعيده وغزارته، إلى البذرة والبذار والفلاحة وموعدها وأخلاق الفلاحين وأذواقهم وعلاقاتهم اليومية، والموسمية، إلى الحصاد والبيدر والسوق والحكمة المختزنة في صدور الفلاحين والعونة فيما بينهم، والحنان الذي يؤالـف بين الـزارع والمزروع».
بهذه النظرة العميقة والمتسعة، ينظر الرجل للثقافة، فيغدو الدين جزءاً منها، وتغدو الحياة حقلاً لمفرداتها، سواء كانت هذه المفردات في العلم أو الابتكار أو الفن…. وتصبح الحرية هي الأساس، والوجود الذاتي يصبح مشروطاً بوجود الاّخر.. هكذا إذن « يحلو لي أن اوافق من قال: إن الله هو صورتنا، صورة الكون لا تطابقها، بل تفيض الذات المقدسة عن الكون بمساحة نوعية هائلة من الغيب الجميل والسر الذي لا ينتهك. ليست الأرض مضلة ولا السماء مظلة، اليمين مضلة والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة».

السابق
اسمه فحسب..
التالي
أنجز أكثر مما يزعم