إسم علم.. من مثله؟

لا يشبهه أحد، مختلف بلا حدود، متعدِّد بلا عد، وهو واحد في كل حالاته… خارج من الجماعة وعلى الجماعة، بانتماء إلى الإنسان، إن في صراط الدين أو في معراج الروح. حرٌّ، ويوسع حدودها فوق المستطاع وله من الحرية مساحات شاسعة ومتمادية، ما سبق أن خطرت لعمامة. أهذا رجل دين بعمامة أم هو رجل دنيا وفوق رأسه غمامة؟ انه الاثنان، وما انفصما ولا تنازعا.

بهذه العناوين عرفته، وفي مساحة الحرية التقينا واختلفنا وتحاورنا، حواراً بلا محرَّمات وبالمحرمات، وما خرجنا عن آداب الحب والاحترام والتقدير. على أن مقامه عندي، كان في مقام الإجابة وأنا في مرتبة السؤال، وكلما فاتحته بجديد، سبقني إليه وعرفه قبلي.
يسقط التكليف معه. يلزمك بأدب المساواة. فلا يشعرك بأنه يتقدم عليك، وهو المتقدم في الدين والفقه والثقافة والكتابة وتجارب الحياة، بقسوة شتلات الدخان وبنادق الفلسطينيين في الجنوب، ومعايشته إرهاصات التحولات في المشرق وصولاً إلى إيران.
في إسلامه فضاء للديانات والمذاهب. تشيعه كتاب بنصوص ينتقي منها ما يوسِّع الإيمان. الروح قبل الحرف. الحب فوق النص. الحياة فوق الفرض… هل هذا كفر أم نوع من سموِّ الإيمان… لذا، في إسلامه وتشيعه مطارح للسني والمسيحي واليهودي والعلماني والملحد. لا يقيم الحد القديم، بل يوسع المطارح للقاء الروح ولغبطة الإنسان.
كنت أتطرف في نقاشي. أتقصد إحراجه بالمستحيل الذي اعتقد به. وكان يحسبني من المؤمنين. بالغت في نقض الحقيقة، فشايعني وصوّبني، ووضعني أمام حقيقتي وحقائق الآخرين. تطرفت وقلت: أؤمن بالخطأ، ولا بد من إعادة الاعتبار للخطأ. نصحني بالتدقيق، كي لا أصبح على صواب وعلى حقيقة. وخفت أن أكاشفه بأنني سأدافع عن الخطيئة، ولكنه اكتشف ذلك واعتـبرني خاطئاً، وتغفر خطاياي.
ذات يوم دفع إليّ بمقالة لأنشرها في «السفير» بعنوان «ليالي الأنس في فيينا». خفت. سألته: وما أخذك إلى عاصمة الموسيقى؟ قال، وعاصمة الأنس والجمال كذلك، ثم تدفق شرحاً ووصفا، بلغة المتمتع حتى الثمالة، بما وهبته الطبيعة حول الدانوب، وبما ابتدعته الموسيقى في مجال الروح. ثم تلا عليَّ أبياتا من الشعر، من كؤوس الأدب العربي. أسكرني أدبه وعشقه للحياة والجمال.
هذا رجل حقيقي جداً… في تدينه مكان فسيح جداً للسماء، حيث ملتقى أنقياء القلوب وأصفياء الروح وأشقياء المعاني والشعراء الذين في كل وادٍ يهيمون، ومعذبي الأرض.
قلت له ذات مرة: لست متصوفا ولكنك صاحب شطح. قال: حزرت. سألته: أهي جرأة المجرب والمكتشف؟ قال: بل واجب الحياة، علينا ألا نترك الحياة تنسحب من قبضتنا كتسلل الرمل من بين الأصابع… تلك كانت فلسفته وهذا كان إيمانه.
في كل مرة كان يرشدني إلى كتاب أو ينصحني بآخر ليسدّد آرائي، كان يدس ورقة يسجل فيها نصيحة. من هذه الأوراق: «نصري… الحبيب. حاذر أن تظلم هذه الصفحات… اظلمني ما شئت… ولكن دع لي دمي هذا… الذي إذا ما جرت عليه، عرفت يقينا انه دمك… أي حبرك… أي ماء عينيك.. يا عيني التي أرى بها أبعد… وأراني بها وأسعد».
قرأتها مراراً، وعرفت انه يدعوني لأن استعير عيون الأخير، كي أكون أبعد واعرف وأكثر التصاقاً بالحبر.
آخر ما وصلني منه، رسالة بعد نقاش واختلاف في الرأي، وما أجمل ان تختلف بالرأي مع عالِم محيط وموسوعي. جاء في نصه: «سأبقى مصراً على توريطك بي وتورطي بك حتى نثبت ان التناقض مفهوم ذهني، وان ما يسمى متناقضين، حبيبان يشتعل الإبداع عندما يتجادلان… هداك الله إلى الحق… وقع على أوراقي ما شئت منها واترك الباقي للشيطان الذي قد يكون أرحم من كثير من الأهل وأقل شراً».
ماذا أقول اليوم؟
ولا مرة كنت اسأل عن السيد هاني فحص. كنت أسأله. فمن لي في مرتبته لأساله؟ لا يشبهه أحد.
هاني فحص، اسم علم. أبقى عندي زاداً وافراً لما تبقى من العمر.

السابق
أنجز أكثر مما يزعم
التالي
أصلّي لشفائه