أخبار العراق يغلب عليها الطابع الشخصي ويصعب تفسيرها

توفّر إجازات الصيف الأكاديمية الطويلة في أميركا أوقاتاً هادئة للكتابة والتفكير، يتخللها بعض الأخبار المزعجة من الساحتين الوطنية والدولية. هذا ما كانت عليه الحال في هذه السنة أيضاً في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد مع الطلاب المتخرجين المنتشرين في أنحاء العالم. وفي حضور جمهور محدود، قمت بتنظيم حلقة نقاش في بداية شهر آب (أغسطس) لمحاولة فهم الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة. لكن، فجأة وفي غضون بضعة أسابيع، لم تعد منطقة الشرق الأوسط إلى واجهة الأخبار من جديد فحسب بل طغت عليها مع الكشف عن أنّ جهاديين بريطانيين وأميركيين ضالعون في عملية القتل الوحشية التي نفذّها تنظيم «داعش» ضد الصحافي الإنكليزي جيم فولي الذي سبق أن أخذته قوات القذافي رهينة في ليبيا عام 2011. بالنسبة إلى أشخاص مثلنا، نادراً ما ينزلون إلى ساحات المعارك في العالم المعاصر، يصبح الصحافيون الشجعان واليافعون عيوننا وفي بعض الحالات وسطاءنا. ومهما حاولوا حماية أنفسهم بواسطة السترات الواقية والخوذات ومهما أخذوا حذرهم، إلا أنهم يبقون عرضة للموت شأنهم شأننا كلنا.

فهذا ما يرمي إليه تنظيم «داعش» وهذه هي ردّة الفعل التي يريدها قادته منّا: الخوف والقلق من جهة والصدمة والدهشة من جهة أخرى. لأنّ كلّ شيء في هذا العالم يسير بطريقة معاكسة. فما تمّت ممارسته تجاه أشخاص مثلهم، يُمارس علينا اليوم مثل التعذيب بالغمر بالماء من جهة وصولاً إلى إجبار الضحايا الأميركيين على ارتداء لباس برتقالي مثل ذلك الذي كان يرتديه أسرى معتقل غوانتانامو.

ويطرح ذلك كله السؤال التالي: كيف يجدر بنا، نحن الموجودون في الغرب، أن ننظر إلى الخطر المحدق بنا وكيف يجب أن يرد قادتنا عليه. لا بدّ في هذا الإطار من الثناء على باراك أوباما الذي يرى أنه مهما كانت المطالب للتحرك الفوري ملحة، يجب أخذ الوقت الكافي لفهم طبيعة التنظيم والخطر الذي يفرضه. هذا ما عناه من خلال ملاحظته التي جوبهت بالسخرية، بأنه يجب عدم وضع العربة أمام الحصان. يجب عدم التسرّع باتخاذ القرارات لشنّ هجوم أعمى في أي مكان وفي كلّ مكان. كما تجب معالجة كلّ مشكلة على حدة.

لكن، شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم، بدأت الاستراتيجيات ومجموعة من التكتيات ذات الصلة، تبرز. أولاً، يجب إرسال الاستخبارات الأميركية والقوات الأخرى إلى العراق للمساعدة على تحديد القادة الفرديين في تنظيم «داعش» ومن ثم مــــطاردتهم الواحد تلو الآخــر. ثانياً، يجب مساعدة الجيش العـــراقي المتداعي على حشد عناصره بطريقة يتمّ فيها احتواء قوى تنظيم «داعش» شمال بغداد. ثالثاً، تجب محاولة قطع خطوط الإمداد لمتطوّعي «داعش» لا سيما أولئك القادمين من بريطانيا والولايات المتحدّة. ورابعاً، يجب إنشاء ائتلاف يضم القوى السياسية الغربية والشرق أوسطية للمساعدة على تنفيذ هذه المهام.

وأبعد من ذلك، ثمة استراتيجية أخرى ربما تقوم على المماطلة من أجل كسب الوقت ليس بانتظار الحصول على معلومات مفيدة فحسب بل بانتظار مرور الأحداث التي من شأنها فرض ضغوط على المتطوّعين الغربيين في تنظيم «داعش» بعد أن يدركوا المخاطر الكبيرة المفروضة عليهم وعلى عائلاتهم. ثمة أخبار عن حصول انشقاقات في صفوف التنظيم ويمكننا توقّع حصول المزيد منها. كما تمّ سحب النسخة البديلة من العقائد الجهادية التي لا تركّز كثيراً على قتل المسلمين الآخرين. وهناك إدراك متزايد في صفوف المتطوّعين المحتملين بأنه قد يتمّ منعهم من العودة إلى ديارهم في حال اكتُشف أمر عملهم كجهاديين أميركيين أو بريطانيين.

إلا أنّ ذلك كلّه لا يسمح لأوباما بتفادي اتخاذ عدد من القرارات الأساسية بما فيها قرار أساسي حول وجوب مهاجمة قواعد تنظيم «داعش» في سورية أو عدمه والتعاون مع النظام السوري في هذا الإطار. في هذا الوقت، يبدو أنّ عدداً كبيراً من المعلومات الاستخباراتية مغلوط. فلم يكن عدد الأيزيديين الذين ينتظرون من ينقذهم في جبل سنجار صحيحاً. كما لا يمكن التأكد من هوية الأشخاص الذين تقتلهم القذائف الأميركية. هذا إلى جانب وجود ثغرات عديدة أخرى أيضاً.

ما الذي يجب فعله غير إرسال المزيد من عملاء الاستخبارات إلى العراق حتى يصبح عددهم أكبر إلى حدّ قد يبدو فيه ادعاء الرئيس بعدم وجوب نشر قوات ميدانية، كاذباً؟ مع الإشارة إلى أن بعض المحللين يرى أن العدد المطلوب من الأشخاص لتنفيذ هذه المهمة يراوح بين 10 و15 ألف عنصر. لا شك في أنّهم تلقوا أوامر بالبقاء ضمن المنطقة الخضراء في بغداد أو في أربيل بعيداً من الاضطرابات. لكن عاجلاً أم آجلاً، سيتعرض أحدهم للقتل أو للاختطاف. ومن ثم، قد يواجهون صعوبات سياسية عند عودتهم إلى واشنطن بسبب موعد الانتخابات في الكونغرس في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ومن ثم الانتخابات الرئاسية بعد سنتين.

إنها أوقات اختبار. ويتمّ الحديث في كلّ يوم عن عدوّ يملك، على حد تعبير رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية نظرة استراتيجية تنذر بنهاية العالم. وسيتمّ مع هذا العدو نفسه اختبار إرادة أوباما وقدرة الشعب الأميركي على التحمّل عند كلّ نقطة ممكنة.

السابق
داعش: حالة ما بعد الحداثة
التالي
الضربات الأميركية في سورية خلال ٣٠ يوماً