سرعة لبنانية مستجدة في الالتحاق بـ «الجهاد العالمي»

ألقت السلطات الدنماركية القبض على سيدة من أصل لبناني كانت تجمع تبرعات لـ»داعش». ليس هذا خبراً عابراً. إنه مؤشر إذا ما أضيف إلى مؤشرات سبقته في الأشهر القليلة الفائتة، فإن على اللبنانيين أن يباشروا إحصاء مزيد من الوقائع المفضية إلى حقيقة أنهم بدأوا يتفوقون على غيرهم من مجتمعات المنطقة في مجال «الجهاد العالمي». فقبل نحو شهرين تم الكشف عن أن الذباح الرئيسي في «داعش» هو أسترالي من أصل لبناني، وقبل ذلك أيضاً أقدم شقيقان سويديان من أصل لبناني على تنفيذ عملية انتحارية مشتركة في منطقة تل كلخ السورية.
وقابل ارتفاع نسبة مساهمة الدياسبورا اللبنانية في «الجهاد العالمي»، ارتفاع في مساهمة «السلفية الجهادية اللبنانية» المقيمة في هذا «الجهاد» أيضاً، فأقدم طرابلسيان خلال الشهر الفائت على تنفيذ عمليتين انتحاريتين في بغداد، وغادر عشرات من المدينة ومن محيطها للالتحاق بـ»داعش» ما أن أعلن البغدادي خلافته.
المساهمة اللبنانية في «الجهاد العالمي» بقيت، حتى سنتين انقضتا، الأدنى بين مساهمات دول ومجتمعات مجاورة. «السلفية الجهادية» لم تُرسِ تقاليد نشاط لها في لبنان في ذروة نشاطها العالمي، واقتصر انتشارها فيه على مجموعات ضيقة ونخب لم تتمكن من تجاوز عتبات مساجدها. لا مفتين لها ولا فتوات، ومن سعى إلى الإفتاء والفتوة فيها من بين اللبنانيين لم يلق الكثير من التجاوب. وفي لائحة ضمت 700 اسم من مقاتلي «القاعدة» في العراق نشرتها القوات الأميركية في عام 2007، لم يكن بينهم إلا لبناني واحد، في حين ضمت اللائحة في حينها نحو 90 سورياً و70 أردنياً ولم ينزل رقم أي بلد عربي عن 10 مقاتلين.
ثمة تحول سريع إذاً. تضخم مفاجئ للقابلية اللبنانية على ممارسة العنف وعلى الانخراط في «الجهاد العالمي». وصار يمكننا أن نتحدث عن «تفوق لبناني» على هذا الصعيد أيضاً.
القول إن «سلفية جهادية» مفاجئة أصابت الفتية اللبنانيين ودفعتهم إلى «الجهاد العالمي» فيه بعض التسرع. ثمة ضعف مفاجئ في المناعة التي تمتع بها «المؤمن اللبناني» في السنوات العشرين الفائتة. ومن الواضح أن ضعف المناعة هذا أصاب البيئات المحلية والاغترابية في آن، وإن على نحو متفاوت. فالدياسبورا اللبنانية كانت أصلاً أضعف مناعة من بيئاتها الأصلية. معظم الأفغان اللبنانيين الذين انخرطوا في «الجهاد» الأول في أفغانستان، وهم قلة على كل حال، هم من لبنانيي الدياسبورا، وتولت المنازعات اللبنانية امتصاص رغبات كل راغب لبناني مقيم بـ»الجهاد»، وساعدها على ذلك هامشية الدعوة «السلفية الجهادية» في مختلف المدن والأرياف اللبنانية.
اليوم هناك تسريع ملحوظ في الانخراط اللبناني في هذه الظاهرة. و»داعش» إذ تُمثل في هذه المــــرحلة وجه «الجهاد» بصيغته العنفية، لا بل تمثــــل ذروته ومنتهاه، فهي على ما يبدو الجهة التـــي استثمرت في هذا المتغير. و«داعش»، كمـــا اللبنانيـــين، ضعيفة الصلة أيضاً بـ«السلفية الجهادية» كطقس وكممارسة وكامتداد، وهي أشد شبهاً بنماذج العنف المحلي وبمصادره المباشرة. المذهبية والعشائرية والضـــغائن الناجمة تهاوي أنظمة وسلطات، هذه عناصر سبقـــت «السلفية الجهادية» إلى الوعي الداعـــشي، وهذه على ما يبدو أيضاً قربت «داعش» كنموذج وكخيار، من ضائقة فتية لبنانيين.
و«داعش» تنظيم جماهيري مذهبي، وهو يملك بهذا المعنى قدرات أكبر من تلك التي تملكها «السلفية الجهادية» النخبوية على التجنيد وعلـــى جـــذب فتــية من خارج المساجد. فـ»الخلافة المؤجلة» لتنظيم القاعدة جعل من نموذجه فكرة يحتاج الإيمان فيها إلى خيال، وإلى بناء فكري ونــظري، وهي مبنية على محاجة متواصلة ودائمة، أما «داعش» فقد أعلنت «الخلافة»، ورســمت حدودها وأعلنت عن خليفتها. هي اليوم واقــع وليست فكرة «مرجأة»، وهي واقع بمواجهة واقع مذهبي موازٍ ومعادٍ. لا يحتاج الانتماء إليها إلى إشغال الذهن، بل إلى مجرد الحماسة وإلـى اشتغال الحمية والرغبة في القتال. مقاتلو «داعش» ليسوا سلفيين بالضرورة، مجرد القابلية إلى الذهاب بالعنف إلى أقصاه يُكرسهم فتوات فيها. لا بأس طبعاً بلحية سلفية، ولا بأس ببعض الصلاة والعبارات المرافقة لخطب «الخليفة»، لكن ذلك ليس جوهرياً وليس شرطاًَ شارطاً.
قد يبدو هذا الوصف محاولة للقول إن «داعش» عارض براني وطارئ، لكن الحقيقة غير ذلك فعلاً، ذاك أن قدرة هذا التنظيم الإجرامي على التوسع وعلى التجنيد وعلى التحول إلى «خيار جماهيري» هي أكبر بكثير من قدرات أسلافه في التنظيمات الجهادية العنفية. فهو يسعى إلى مخاطبة ما أنتجته فينا منازعاتنا من قابلية للقتل والثأر والاستئصال، ويذهب بهذه القابلية إلى منتهاها، ولا تتوسط بينه وبين الفتية المجندين سوى فكرة واحدة، بسيطة وجاذبة، وهي قتل العدو، والعدو هو «الآخر».
ليست المساجد ولا الجامعات هي أمكنة التجنيد، على نحو ما هي في حال «السلفية الجهادية»، «داعش» تُجند من الشوارع والساحات، ومن العشائر ومن الأحزاب المُجتثة، وهي إلى ذلك تُخضع جماعات بأكملها وتضمها إلى جسمها. المبايعات العشائرية هي أحد أشكال الإخضاع، وكذلك العلاقة الملتبسة مع تنظيمات البعث في العراق.
«داعش» ليست فكرة في وعي فتيتها، إنها «خلافة متحققة». القتال في صفوفها يُشبه الجندية، واللبنانيون إذ يمقتون الأفكار ويقدمون الواقعية عليها، فهي بذلك قريبة من أذهانهم ومن أنظارهم. إنها هناك تماماً بالقرب منهم. ليست بعيدة كثيراً عن طرابلس ولا عن صيدا، وهي إذ أطلت برأسها من جرود عرسال، راحت تُخاطب حاجتهم للقوة المنتزعة منهم، للثأر من سنوات طويلة أمضوها تحت سلطة حزب الله.
«داعش» حزب مذهبي مباشر وجلي، بينما توسطت بين «القاعدة» وبين مذهبيتها الكثير من الأفكار ومن الحسابات. «الخلافة الجديدة» تولت نزع السحر والخيال عن العنف، وجعلته واقعياً ومرتبطاً مباشرة بما يجري من نزاع. كذلك جعلته راهناً وغير ماضوي، فما يجري، إنما يجري الآن في هذه اللحظة، وهذه الصورة المرسلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليست ماضياً على نحو ما نعهده في الصورة، بل هي اللحظة التي نراها فيها.
بهذه الســـرعة غادرت والدة الانتحاري اللبناني منزلها إلى عيادة الطبيب في بيروت، لتعـــود إلـــى منزلها بعد ساعات قليلة وتكتشف أن ابنـــها الذي لم يكن سلفياً توّجه إلى العراق.

السابق
المنطقة على موعد مع حرب عمياء سياسياً
التالي
وزير الداخلية يلغي زيارته الى الدوحة بسبب التطورات