أسراري عن الله والكذب وقرون الحرّ

العقاب المحتمل بالخنق أو بدخول "قلب الطير" الى مؤخرتي أجبرني على القيام بعملية وزن لكلّ حرف يصدر من فمي، حتى أنني لم أتجرأ على التفكير بالكذب على نفسي.. وسألت جدّي مرّة: لماذا لا يخنق الله هؤلاء الذين يقصدون حمّام المسجد لقضاء حاجتهم خشية أن تمتلىء الجورة الصحية في منزلهم وليس من أجل الوضوء فقط ؟ أجابني بحدّة: "روح دوّر على درسك وعلى علمك"!

كنت أتخيّل بأن الله يملك أصابع فولاذية تشبه أصابع المذراة، وبأنّ عمله يقتصر على مراقبة الأولاد والإطباق بتلك الأصابع على أعناقهم عندما يكذبون.

أمّا الولد الذي سيتفوّه بكلام بذيء فإن مؤخرته ستنال نصيبها من قرون الحر.

هكذا كانوا يقولون لنا. الله يخنق الكاذب، وقرون الحر الحادّة المذاق تُزرع خصيصاً لمعاقبة “الأولاد الزعران”.
قُربُ منزلنا من مسجد القرية جعلني أعتقد بأنّ كمّاً من الملائكة مخصّصة للمراقبة تسكن على بعد خمسة أمتار لا أكثر، بل أنّ ذلك الزوج من الملائكة على كتفيّ، وإن غادرني خلال ساعات نومي، فإنّه سيمكث على سجادة المسجد، وسيعود بسرعة البرق عندما أغادر فراشي.

لم أكن أملُك فرصة لكذبة مهما كان حجمها… بل أنّني صرت أخشى أن أنظر الى داخل المسجد، أو الى حديقة المنزل الصغيرة حيث كان أبي يضيف الى شتلات الخضر شتلة حرّ نُسميها في القرية ” قلب الطير “… كانت، وكأن أثمارها مصمّمة للولوج الى المؤخرة بسلاسة التحاميل الطبية.

العقاب المحتمل بالخنق أو بدخول “قلب الطير” الى مؤخرتي أجبرني على القيام بعملية وزن لكلّ حرف يصدر من فمي، حتى أنني لم أتجرأ على التفكير بالكذب على نفسي… فتلك الأصابع الفولاذية على بعد أمتار خمسة من فراشي، وشتلة الحر على بُعد ثلاثة منها… عند خروجي من باب المنزل كان عليَّ المرور إمّا من أمام باب المسجد جنوباً أو من أمام الحديقة شمالاً… من أمام هذا وتلك كنت أسير ببطئ مطأطئ الرأس، ثم ما ألبث أن أترك العنان لجسدي لأركض بعيداً بكل ما أملك من قوّة.

فوق باب المسجد عُلّقت قطعة رخامية بيضاء كُتب عليها “جامع محمّد الظّريف”. حديقة منزلنا الصغيرة كان اسمها “الجنينة”… إسمان جميلان يحملان من البراءة ما يكفي لطمأنينة وسلام، لكنّهما أيضاً حملا ما يكفي من صدّنا عن كذبة طفولية بيضاء أو التعرّف على كلمة نابية. كنت أرتعد وأرتجف خوفاً لمجرّد مرور شيء من هذا القبيل حتى في داخل دماغي.

إنّه منطق الترهيب والترغيب الذي توارثناه في وعينا “أباً عن جدّ”. ما زلت أشعر برعشة الخوف عند مروري من أمام ذلك المسجد قرب منزل العائلة.. “الجنينة” أُزيلت ليحلّ مكانها حانوت مقفل. تغيّر اسم المسجد لكنّ بابه لم يُقفل يوماً. وراء ذلك الباب ثمّة تابوت معدني حمَل الكثيرين إلى مثواهم الأخير. صنعوه من الحديد كي يبقى صلباً قاسياً الى الأزل. كي يحمل الباقين، ومنهم أنا.

كذبت فيما بعد مرّات ومرّات، ككلّ الناس، وتفوّهت وما زلت بكلمات نابية. عنقي ما زال بخير وكذلك مؤخرتي.

كل يوم في الصّباح كنّا نشعر برائحة كريهة. سمعت جدّي يقول يوماً بأنّ البعض يقصد حمّام المسجد لقضاء حاجته خشية أن تمتلىء الجورة الصحية في منزله وليس من أجل الوضوء فقط. سألته مرّة: لماذا لا يخنق الله هؤلاء؟ أجابني بحدّة: “روح دوّر على درسك وعلى علمك”!

السابق
خلية الأزمة قررت متابعة ملف العسكريين المخطوفين
التالي
سلام: مصرون على استعادة ابنائنا ولسنا في موقف ضعف