«داعش» ورايته المقدسة

الوقائع بسيطة: شباب غاضب في حيّ الأشرفية المسيحي من بيروت، يحرقون علم “داعش”، تعبيراً عن غضبهم من ممارسات هذا التنظيم التي وصلت حدود لبنان الشرقية، فاختطف جنودا من جيشه، وذبح واحدا منهم، وما زال متأهبا لمعركة لبنان الى خلافته الاسلامية، تحقيقاً لأمنية الوصول إلى شواطىء البحر المتوسط. ثم وزير يرفع عليهم قضية ويطالب القضاء بأن ينزل عليهم “أشد العقوبات”، بداعي ان هؤلاء الشباب حرقوا “رمزاً دينياً”، أي كلمة “لا إله إلا الله”، المزِّينة للعلَم الداعشي. ومن أجل أن ينتهي الموضوع بالشعار البائت “لا غالب ولا مغلوب”، قام شباب مسلم من العاصمة الثانية طرابلس، بطرق أبواب بعض كنائسها ووصمها بشعارات داعشية؛ فقام الوزير نفسه بمطالبة القضاء، أيضا، بانزال أشد العقوبات عليهم. هكذا إعتقد بان الموضوع “انتهى”، بالمناصفة، و لا حاجة إذن إلى كل “هذا الضجيج”… ولكن هذه “التسوية الذكية” لا تلغي السؤال: لماذا؟ لماذا يرى الوزير علم “داعش” مقدساً؟ هل لأنه يعتبر “داعش” كما يقدم نفسه، أي صاحب الاسلام؟ وانه، أي الوزير، يتمنى فعلاً أن تشيّد دولته الإسلامية، طالما الأمر آتٍ من أصحاب راية مقدسة؟ هل كان تصرفه عفوياً، من دون تمحيص، يعبّر عن أعمق مكنوناته، بأن “داعش” يمثل الإسلام؟ أم إن الموضوع حساب سياسي ضيق، يتعلق بمدينة طرابلس، مسقط رأسه، حيث جماهير “قادة المحاور”، رافعي علم “داعش”؟ أم لأنه غائص حتى أذنيه في ثنائية 14 و 8 آذار، معسكري لبنان المتخاصمين، فلا يرى في “داعش” غير “ثأر” للمعسكر الذي ينتمي اليه؟ أم إن وظيفة الوزير في وزارة “الوحدة الوطنية”، هي وظيفة إستنسابية، طالما ان ملخص إجتماعات مجلسها تدور حول أسئلة الجدل البيزنطي من نوع “من يلعب بالبلد؟”. والحال ان الذي يستحق العقاب باستباحته الرموز المقدّسة، هو “داعش” نفسه. فتحت راية “لا إله إلا الله”، دمر أضرحة الأولياء والحسينيات المزارات والمساجد والكنائس، وهدر الارواح والحريات واسقط الأوطان… وها هو يتأهب على حدود لبنان الشرقية، لربما بلغ البحر المتوسط، فتكتمل معالم دولته بتطهير لبنان من المرتدين والروافض والنصارى. قتلة، لصوص، خاطفون، يذبحون، يصْلبون، يسْبون، متباهون ببشاعتهم، يروجونها على اليوتيوب؛ قلْ ما شئت عنهم، وسوف يكون صحيحاً… هؤلاء هم الذين يستحقون المحاكمة، وليس نفراً من الشباب، ما زال يمتلك شيئا من آدميته، وحرق الأعلام عنده تقليد سياسي عريق، لا يرى فيه بدائيته السياسية. ولكن ماذا تفعل؟ ماذا تقول؟ “داعش” وصل الى لبنان قبل جيوشه الجرّارة. ها هو لبنان رهينته. فبدل ان يحتج أهالي العسكر المخطوفين على جرائمه، صاروا يتوسلونه، يهمسون في آذانهم، يرجونه، يستعطفونه، يقولون له معك حق، انت فوق رأسنا، قل ما تريد، إفعل ما تريد، ولكن أعِد لنا أولادنا. بعض الزعماء المسيحيين التقطوا النغمة، ووجدوا انها خير سبيل لبلوغ المراد: مسامحة “داعش” على كل ما عليه، استنكار حماسة الشباب الصادقة المتهورة بحرق علم التنظيم الإجرامي، الذي لا يرفع إسمه إلا مبخّراً، والرجاء مرة اخرى تسليم أولادنا سالمين. طبعاً، لا يمكن مؤاخذة أهل وجدوا للمرة الألف ان دولتهم عبارة عن قماشة رقيقة من النايلون المهترىء، وحيدين أمام قدرهم… هكذا كان الوضع أيام الوصاية السورية: يسكتون عن الذين يقتلونهم، حفاظاً على رقابهم. الشباب الذين أحرقوا علم “داعش” في ساحة ساسين ربما تأخروا في موعدهم مع المعركة. ومعركتهم مع الوزير المشتكي عليهم أمام القضاء هي من صلب معركتهم من اجل وجودهم. هم مهددون، مثل الشيعة، مثل السنّة، بوجودهم المادي المباشر، بوصفهم كتلاً، مكوِّنات بشرية بعينها. وهم يرون بالمقابل طبقة سياسية فاسدة ومعطلة، وذات قصر نظر رهيب، لا تفعل شيئاً غير السفسطة. القصص التي تبلغهم عن مسيحيي العراق تقشعر لها أبدانهم. إنهم مستهدفون… فيما شركاؤهم في الوطن، وطن “العيش المشترك” النموذجي دائماً، لهم “عمقهم” العربي، الإسلامي، الإقليمي، هم لا يملكون إلا الغرب التاريخي، غرب الذكريات مع الراحلة “الأم الحنون”، فرنسا، ليس إلا. تعبيرهم عن رعبهم من “داعش” لم يكن موفقاً، ولكنهم يقولون ما تضمره الغالبية العظمى من اللبنانيين، مهما كانت أهواؤها: “الله يلعن داعش!”. وهذا دعاء وحده كفيل باحراق أعلام “داعش” كلها، من العراق وحتى شواطىء البحار والمحيطات.

السابق
تعميم صورة المشتبه به بقتل ايلي كفوري ومرتكب 15 عملية سلب
التالي
نجاة نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني من اغتيال