نهاية الصيغة اللبنانية؟

يكثر الحديث في الأروقة السياسية اللبنانية عن إنقضاء صلاحية الصيغة اللبنانية التي أنتجها إتفاق الطائف، وأن الأوان قد آن لإعادة النظر في نظام المحاصصة الطائفية التي ثبتتها الطبقة السياسية، منذ استلامها الحكم، على أنقاض الحرب الأهلية في العام 1989. يترافق هذا مع حديث في المنطقة حول تغيير ممكن للحدود التي أنتجتها معاهدة «سايكس بيكو» في العام 1916 وتوقع فرض النزاعات الدامية والصَّفقات السياسية التي تصاحبها لواقع جغرافي جديد. لقد انعكست جغرافيا لبنان الملاصقة لسوريا وفلسطين المحتلة، عوامل جيوستراتيجية باهظة الثمن، على حساب سلمه وأمنه وتطوره. تجري على حدود لبنان أشنع الحروب، من إجرام النظام الإسرائيلي في غزة والأراضي المحتلة التي لا تقل بشاعةً عن وحشية جميع الأطراف المتنازعة في سوريا، سواءً النظام السوري أو الجماعات المتطرفة المعارضة، إلى تفاقم العنف في العراق مع سيطرة «داعش» على الموصل والاضطهاد والتهجير الذي يتعرض له مسيحيوها وأيزيديوها والأقليات وكل مسلم لا تقبله ولا يستسلم “للدولة الإسلامية”.

 

من المؤكد أن كل هذا الهذيان السياسي والتدهور الأمني في المنطقة ليس عفوياً أو بريئاً، بل يتغذى من الانقسامات السياسية الداخلية وله داعموه وممولوه وعرابوه في بعض دول الغرب والمنطقة. يلقي الوضع الإقليمي بثقله على الواقع اللبناني، ويطرح تساؤلات عديدة ستتكشف في المرحلة المقبلة: هل يمكن للصيغة اللبنانية أن تنجو من التغييرات التي تفرضها الأحداث الإقليمية، وهل سيؤثر العدد المتزايد للاجئين السوريين في لبنان على تركيبته الديموغرافية والسياسية والاقتصادية والأمنية؟ ما هي نتائج توسع نشاط المنظمات الإرهابية في داخل لبنان وانتشارها على حدوده؟ وهل سينعكس الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في المنطقة مقاربةً سياسية جديدة لمسيحيي لبنان؟ من جهة أخرى، كيف سيترجم تصاعد العنف بين السنة والشيعة في المنطقة على الأحزاب اللبنانية المتصارعة؟ هل سيكون للحرب الإسرائيلية على غزة أية انعكاسات بإعادة طرح فلسطين كقضية مركزية وبالواقع الصَّعب الذي يعيشه الفلسطينيون في المخيمات؟ من الساذج اختصار مسببات الأزمة اللبنانية بالوضع الإقليمي والتغاضي عن جذورها الداخلية، مع اعتراف معظم مكونات الطبقة السياسية بعجز الدولة ومؤسساتها، بعد فراغ حكومي دام أكثر من عشرة أشهر، وفراغ رئاسي مستمر، وتمديد قسري لمجلس النواب الذي لا يبدو مهتماً بتجاوز المهل الدستورية أو بإقرار السلسلة وغيرها من المشاريع التي قد تنقذ الإدارات العامة من التعطيل التام. كل هذا العجز والتعطيل الطوعي يقابله تفاقم الفقر في المناطق وتدهور اقتصادها وتزايد الهواجس الأمنية لدى المواطنين، خصوصاً مع النزوح السوري إلى لبنان. لا يمكن إذاً تجريد الطبقة السياسية من مسؤوليتها لما آلت إليه الأوضاع في لبنان، ليس فقط لتعطيلها للمؤسسات، بل أيضاً لارتهانها لجهات إقليمية ودولية متورطة في الصراعات الإقليمية، ولعلَّ أكثرها صراحةً تدخل «حزب الله» في الحرب السورية.

 

أمام هذا المشهد الإقليمي والداخلي، يقف لبنان أمام مفترق طرق، يضع «اتفاق الطائف» ومعه ترجمته في النظام الحالي كتركيبة توافقية طائفية أمام اختبار صعب ويلوِّح بطائف جديد. وفيما يبدو واضحاً من خلال لقاءاتي مع بعض مستشاري التيارات السياسية اللبنانية شبه الإجماع بين الأطراف السياسية على التمديد مجدداً لمجلس النواب، يبقى مبهماً ما تتوخاه كل من الأطراف السياسية من خلال هذا التمديد. وفي حين تتباين المخارج التي تسعى إلى تحقيقها الأطراف اللبنانية خلال هذا الوقت المستقطع، وبغض النظر إذا كانت القوى اللبنانية قادرةً على تثبيت أو تغيير الصيغة اللبنانية من دون قرار خارجي، من المفيد النظر في الاحتمالات المطروحة اليوم والتي من الممكن اختصارها بأربعة خيارات. يتلخص الخيار الأول في تثبيت صيغة «الطائف» الحالية والنظام التوافقي الطائفي الذي تفرضه ترجمته العملية، من خلال لقاء إقليمي على غرار «اتفاق الدوحة» في العام 2008 يتوافق على سلة مقررات تشمل الاتفاق على رؤساء للجمهورية والحكومة ومجلس النواب وتبت بقانون الانتخابات. يبدو «تيار المستقبل» الأكثر تمسكاً بالصيغة الحالية، ويرى في أي تغيير تهديداً لـ”السنية السياسية”، إذ قد يقلص صلاحيات السلطة التنفيذية التي يرأسها السنة حسب الطائف. ولأسباب شبيهة، يتمسك الحزب التقدمي الاشتراكي بالطائف بكونه أداةً تضمن تثبيت الدروز كمكون أساسي في ميزان القوى في لبنان. وبعيداً عن الأسباب الطائفية المحركة للأحزاب السياسية، يرى البعض أن حركة «أمل» قد تقارب بتوجس تغيير الطائف لأن أي تغيير في الصيغة الحالية، ولو أتى لمصلحة الشيعة، قد يضعها أمام تقاسم الحصة الشيعية مع «حزب الله» ويقلص من حجمها في المؤسسات العامة. أما الخيار الثاني فهو تعديل «الطائف» وإعادة توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث وعلى الطوائف، مع احتمال استبدال المناصفة بالمثالثة. ولعلَّ أبرز المستفيدين من الخيار هو «حزب الله»، لأن الصيغة الحالية لا تضمن مصالحه، خصوصاً مع تزايد الشحن المذهبي وتصاعد نفوذ المجموعات الإرهابية. قد يُكسب تعديل الطائف صلاحيات أكبر لـ«حزب الله» في السلطة التنفيذية، أو أقله يجعله أكثر نفوذاً داخل السلطة التشريعية. وقد ينظر «التيار الوطني الحر» إلى هذا الطرح إستراتيجياً، فيرى في تأييده ودعم «حزب الله» من ورائه وسيلة لمقايضة «حزب الله» على وصول عون لسدة الرئاسة، أو أقله إعطاء صلاحيات إضافية لرئاسة الجمهورية.

 

ويطرح الخيار الثالث تقسيم لبنان على أساس نظام فيديرالي طائفي. وقد تجلَّت أولى بوادر هذا الطرح مع القانون الأورثوذوكسي الذي يقترح تحويل “نواب الأمة” إلى ممثلين لطوائفهم. وتلتقي معظم الأحزاب المسيحية على هذا الطرح باختلافات سياساتها وعلى رأسها «حزب الكتائب» وبعض أوساط «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، باعتبار أن صيغة العيش المسيحي المشترك التي يفرضها هذا النظام تبقي الطوائف في حالة خوف على وجودها وترغمها على ربط مصيرها ببعضها البعض، في ظل توسع الشرخ السياسي حول دور لبنان في المنطقة وعلاقته بالدول الإقليمية وتفاقم التباعد الثقافي. ويرى البعض في الفيدرالية الوسيلة الأضمن لإعادة نفوذ المسيحيين، في مناطقهم على الأقل، والمخرج الوحيد لعدم تمييعهم في خيارات الطوائف الأخرى. بعض أوساط حزب الله لا تعترض على هذا الطرح، إذ قد يؤمن لها استقلالية في التعاطي مع القضايا المركزية إقليمياً ومحلياً، من دون أن يؤثر على النظام الاجتماعي والاقتصادي في مناطق نفوذه. الخيار الرابع، وهو الأقل تداولًا وشعبية إلا بين أقلية في الأحزاب اليسارية وبعض المثقفين وقيادات المجتمع المدني، يدعو إلى تحويل النظام اللبناني إلى نظام ديموقراطي علماني بالاستناد إلى خريطة طريق تمهد للتخلص من الطائفية على المستوى السياسي والمؤسساتي والاجتماعي. ويعتبر البعض أن هذا الطرح هو تطبيق لاتفاق الطائف الذي نصَّ صراحةً على إلغاء الطائفية السياسية في البند “ز” من “الإصلاحات السياسية” التي يضمها. لا يغيب هذا الطرح عن أروقة كل الأحزاب وخطابها السياسي، غير أنه يأتي دائماً في إطار نياتها الطائفية التي ترى في اعتماد الخطاب العلماني وسيلةً لكسب عدد أكبر من المؤيدين لها.

 

وفيما يرتفع صوت الناشطين المدنيين الداعين لاعتماد نظام انتخابي نسبي خارج القيد الطائفي، ترى الأحزاب اليسارية في النظام الطائفي سبباً لضعف مشاركتها السياسية. وتبقى الدولة المدنية العلمانية الخيار الأفضل لتغيير مستدام يسمح ببناء دولة قوية متماسكة تحمي لبنان من التخبطات الإقليمية وتساوي بين اللبنانيين، بغض النظر عن طوائفهم، بدل تحويل الطوائف إلى أداة إقليمية للتلاعب بالعصبيات واستدعاء الحروب إلى الداخل. وفي الوقت عينه، يعتبر هذا الخيار الأصعب والأطول زمنياً من حيث التطبيق الفعلي، إذ يحتاج إلى مسار منهجي يبدأ بتحديد موعد قريب للانتخابات النيابية على أساس نظام انتخابي يعزز علاقة المواطن بالدولة بدلاً من طائفته، ويعمل بالتوازي على تطوير نظام تربوي يثبت الثقافة المدنية للمشاركة السياسية، وقانون مدني للأحوال الشخصية ونظام قضائي مستقل يضع القانون فوق كل اعتبار. تعتمد أرجحية جميع هذه الخيارات على تغير موازين القوى في المنطقة والاتفاقات الإقليمية والدولية التي ستنتج عن ذلك. وفيما ننتظر ما ستؤول إليه التغيرات الإقليمية، بإمكاننا أن نعيد النظر بالصيغة اللبنانية ودستور «الطائف» لمنع حرب أهلية أخرى، بدل انتظار طائف آخر ينتجه الدم اللبناني – اللبناني. أليس من الأجدر بنا أن نبدأ حواراً وطنياً، لا يقتصر على زعماء الطوائف، للبحث في عقد اجتماعي مدني جديد بين اللبنانيين، عسى أن ننقذ أنفسنا من حمام الدم الذي يحيط بنا ونحمي تنوعنا الثقافي والطائفي بدل أن نعيد إنتاج الحروب.

http://www.assafir.com/Article/18/369586

 

 

 

 

 

السابق
إغلاق متوسطة التبانة الرسمية بقرار مالك المبنى
التالي
مذكرات وجاهية في حق 7 موقوفين في ملف عماد جمعة