من المغول إلى ’داعـش’

ثـمـة حقيقةٌ يعرفُها المؤرّخون المُتمكنّون، وألمح إليها إلماحاً بعضُ مَـن كتبوا تاريخَ الفترة المغوليّة في بلاد الإسـلام. هي أنّ المغول / التـتـر الذين اجتاحوا العالم الإسلامي من أقصى مشـرقِه حتى أبواب مصر لم يكونوا جميعاً من المغول، بل كان أكثرُهم من المسلمين.

الخجلَ، فـي ما يبـدو، هو ما حالَ بين الجميع وبين البوح بالحقيقة الرهيبة. لأنّها تعني أن تلك الفظائع المَهولـة قـد ارتكبها في بلاد الإسلام، وإنُ جُزئيّاً، إخـوانٌ لهـم في الديـن.
خرج المغولُ من منغوليا، بعـد أن لـمّ شملَهم جنكيز خان ووحّـدهم ســياســيّاً واجتماعــيّاً، عـلى قاعـدةٍ تنظيميّة عـمادُها شـــريعـتُهم المـوروثـــة المُسمّاة (الياسـا). بعد أن كانوا قبائل مُنشغلةً بالمنازعات والحروب في ما بينها يغـزو بعضُها بعضاً. وبهـذه الوسـيلة أنشـأ دولةً سـرعان ما ضمّت إليها دولة خوارزم التركيّة التي كانت تنبسطُ عـلى كل آسـيا الوسطى (ما وراء النهر) بالإضافة إلى إيران. وبذلك صارت منغوليا الصغيرة دولةً عظمى، لها من الموارد بالرجال والمال والسلاح ما ليس له مُضارعٌ يُعادلُه من المُحيط الهادي حتى اواسـط أوروبا. اتجهت فوراً إلى إقامة امبراطوريّةٍ مغوليّة عالَميّة. ومن ذلك طبعاً غـزو العالَـم الإسلامي.
في السنة 656 هـ / 1257م اجتاحوا العراق فدمّـروه تدميرا، وقضوا على الخلافة العباسيّة. ومنها إلى أقطار الشام، حيث قضوا عـلى الإمارات الكثيرة فيه حرباً أو استسلاماً. إلى أن وصلوا إلى عين جالوت في فلسطين. وفيها ذاقوا لأوّل مـرّةٍ طعم الهزيمة عـلى يـد المماليك المصريين، فانطلق الناجون منهم مُهرولين تُلاحِـقهم فرسان المماليك حتى اجتازوا نهر الفرات. وهنا انتهى دور الاجتياحات ليبـدأ دورُ الدُوَل المغوليّة الحاكمة في العراق وإيران.
وممّـا ينطوي عـلى كبير معنى أن أولئك الذي نُسمّيهم اليوم المغول سمّاهم أسلافُنا في ما تركوا لنا من أدبيّات تاريخيّة وبُكائيّة : التتر. وذلك اسمٌ لم يأتِ من الفراغ بالتأكيـد، يعني أنّ أولئك الذين تعامل معهم الناس في بلائِهم كانوا من الشعوب التتريّة الواسعة الانتشار. وبناءً على ماقاله هوتسما في دائرة المعارف الإسلاميّة، مادة “تـتـر”، فإنّ المغول كانوا يُعرفون في الصين والعالَم الإسلامي والروسيا وغـرب أوروبا باسم التـتـر. وما هؤلاء إلا من الشعوب التُركيّة التي تقطن سُـهوبَ آسية الوسطى. والعثمانيّون ظلّوا مـدة طويلة لا يؤثِــرون أن يُطلَق عليهم اســم تُــــــرك بل تَــتَـــر. وأكـثــرُ من ذلك أنهــم (العثمانيين) كانوا في السنة الأخيرة التي سبقت الثورة عـلى حُكم الخلافة، عـندما أصبح مبـدأ القوميّة له المكانة الأُولى عـنـدهم ، تناقشوا في ما إذا كانوا يُطلقون عـلى أنفسـهم اسم تُـرك أم تـتـر.
وهكـذا، فعنـدما خـرج عسكر هـولاكو خروجَه الثاني مُتجهاً إلى العراق كان يقودُ جيشاً خليطاً من الشعوب، المُتقاربة لغةً وطِباعاً، والمتعارِفَـة أثناء تاريخها الطويل. كان قادتُـه من المغـول، نعـم، ولكنّ أكثر المقاتلين من التـتـر والخوارزميّة المُسلمين. انضموا إلى الجيـش الزاحــف الذي لا يُقهَـر، تُحـرّكهم شـهوةُ السّـلب والنّهـــب. ومن هنا فعنـدما طلب هولاكو من الخليفةُ المُستعصم العباسي أن يُرسـل وفـداً من قِـبَـلِـه، لمُناقشته في السـبب الـذي دعاه لغـزو عاصمة الإسـلام وعـصيان أمـر الخليفة (وهــــذه البادرة من هولاكــو أمـرٌ لا يفـوتُ القارئَ اللمّاح فهم مغـزاه، وكأنّـه كان يتفادى ظهور تعارُض بين ضمير قسـمٍ لا يُستهان به من عسكره وبين اقتحام عاصمة دار الإسلام وما يقتضيه)، – وجـدَ الوفـدُ في قِـبـالــه عُـلماءَ دين، ممّن كانوا في رِكاب هولاكو، يُجادلونه بالقرآن والحديث والشريعة في شـرعـيّة هـذا الخليفة واستحقاقه المنصب وعــدله وحِفاظه للدولة وشعـبها، وما إلى ذلك. وكأنّ ذلك الجِـدال كان بمثابة تمهيـدٍ أو مقـدّمةٍ أو تسـويغٍ لاستباحة بغـداد وما ارتُكـب فيها من فظائع. وما نـدري هل حصلَ ما حصل بفتوى منهم أم بمجـرّد السكوت (علامة الرّضى)؟ وعـلى كلّ حال فـإنّ الشـواهـدَ عـلى وُجـود مُســـلمين في الجيــش المغولي كثيرة جـــــدّاً. ومن أبرز ما وقعتُ عليه من ذلك، أن هولاكو عنـدما دخـل بعلبك صُلحاً، بتوسّـط ابن المدينة تقي الدين الحشائشي، الذي كان هو الآخـر في رِكاب هولاكو، ولّـى عـليها أحـدَ أُمـراء عسـكـرِه واسمه بدر الدين يوسف الخوارزمي. ثم كان ان استنهض عالِـمُـهـا البطل ابن ملّي الأنصاري ونظّـم وقـادَ حــربَ عـصابات ناجحة ضـدّ المُحتلين، فـأوكـل إليه أمـرَ قــتال المُجاهـدين.
لكنّ ما يمنحُ المُتأمّـل الحاذق حظّـاً أكبرَ في تقدير عـديـد المسلمين في الجيش المغولي، هو أن هـذا عـنـدما وصل إلى سهل عين جالوت وجـد المماليك وقـد قطعوا عـليه الطريق هناك كي لا تقعَ المعركةُ المُرتقبة عـلى أرضهم. وسرعان ما محقـتهم سيوفُ المماليك الحِـداد كما نعرف. وما من ريبٍ عنـدنا في بُطولة المماليك يومـذاك. وعـلى كل حال فإنّهم كانوا يُقاتلون عن امتيازاتهم الطبقيّة العسكريّة. ولكنّ الحَسْـم السريع للمعركة يـدلُّ عـلى أنّ المغول لم يكونوا في مثل عديدهم الكبير يوم استباحوا العراق. ممّـا يدفعُ في اتجاه الظنّ القوي بأن قسماً لا يُستهانُ به من جَـمْعهم كان قـد انكفأ راجعاً إلى حيث أتى، بعـد أن امتلأت أيديهم من النهب، وبعُـدت بهم الدروبُ الطويلة عن بلادهم. هؤلاء كانوا من الذين التحقـوا بهم ولم يكونوا منهم. والقراءةُ الدقـيقةُ لنصوص المؤرخين عن المعركة تُظهرُ أنّهم كانوا جميعاً في عين جالوت من المغول، ولم يكُن فيهم مَـن يُذكَـرُ من المسلمين. والنتيجة لهـذا التحليل أن الفعلَ والأثــرَ للجيش المغولي في العـراق، وربما إلى أوّل الشام، كان للمسلمين من تـتـرٍ وخوارزميّة وليس للمغـول. وعـنـدما انفصل عـنهم هؤلاء خمـدوا وانتهوا كقوة بطـشٍ لا تُقاوَم.
دائماً كانت علاقة الجزء الشرقي من العالَـم الإسلامي (مصر والشام والعراق وإيران) بالشعوب التركيّة بمختلف أسمائها علاقةً فلنُسَـمّها طُفيليّة. حيث الكائن الطفيلي يتعلّقُ بمُضيفه لغرضٍ واحـد هو امتصاصُ دمائه : الغزوة المغوليّة الأُولى، دولة المماليك، ثم الغزوة الثانية بقياد غـازان، والثالثة بقيادة تيمور لنك، وُصولاً إلى الليل العثماني الطويل. أي أنّ العالَم الإسلامي عانى مختلف صنوف البلاء منهم مـدة ستة قـــرون ونصف. انحـدر أثناءها انحـداراً ثابتاً في اتجاه الانحطاط في كل شـيء. خصوصاً عـلى أيدي العثمانيين الذين أسّـــسوا أسـاسَ الافتراق النهائي الحـادّ العمودي بين المذاهب الإسلاميّة. وذلك إذ صنّفوا المسلمين رسميّاً إلى أهل ملّة هم أتباعُ أحـد المذاهب الأربعة حصْراً مع امتيازاتٍ خاصة بالمذهب الحنفي، وخارجين عـلى الملّة وهم كل مَـن سـواهم. وبنوا عـلى ذلك أن وضعوا أوّلَ تنظيرٍ رسـميّ للإضطهاد عـلى قاعـدة الاختلاف في المذهب، ممّـا لا تـزالُ آثارُه الفاعلة حتى اليوم في كل الاتجاهات التكفيريّة. وفي المُقابل ليس لهم (أي للعثمانيين) أدنى مُساهمة فكريّة في المعارف الإسلاميّة، حتى في مذهبهم الحنفي. لا كتابٌ باقٍ، ولا عالمٌ ذو أثـر.
أمـرٌ آخَـر لا غـنى عن ذكـره في هـذا السياق. هو أن القتل كان عـنـد أُولئك جميعاً مفهوماً آخـر مُختلفاً عن كل ما لـدى مَن عـداهم من البشـر. وكأنّـه كان فـنّـا يؤدّونه بتلـذُذ، يتدرّبون عـلى إتقانِه منذ نعومة أظفارهم. والذين قُتلوا عـلى أيديهم من المسلمين هم فوق كل إحصاء بل فوق كل تصوُّر. ليس هـذا هو مَحَـطّ كلامنا. فنحن العرب أيضاً عـنـدنا قَـتَـلَـة سـفّـاحون، لا قـيمة عنـدهم للحياة البشرية (الحجّاج، مثلاً). ولكن فلنلاحظ أن تيمور لنك، ذلك السّـفاح الذي قـتـل من البشر أكثرَ مـمّـا قـتلَ أيُّ إنسـان آخَـر في كل التاريخ، وكان مُغـرَماً ببناء الأهرامات بجماجم قتلاه، هو عـنـد قومـه وليُّ من أوليـاء الله. وحتى اليوم فإنّ قبره في سـمرقنـد مقصَـدٌ للزائرين يتبرّكون به ويُقـدّمونه بين أيـدي صلواتهم.
ذلك التاريخ الأسـود، أربابَــهُ وضحاياه، هو الخلفيّة الفكريّة والسلوكيّة للهـول الذي يُهـدّدنا اليوم. إنّـنـا إذ ننظر مذهولين إلى شخصٍ يُطلق لحيته ويحفو شاربيه اتباعاً للسُـنّة النبوية، وهو يرفع رأسـاً بشرياً مُـكَـبّـراً مُتفاخِـراً، او يـذبـحَ طفلاً، أو يسبي فتاةً ليبيعها بالمزاد، لسنا بحاجةٍ إلى كبير تأمُّـل لنعرفَ من أين استقى حوافـزَه وفكـرَه المُحـرّك والمُـوجّــه.

السابق
مناورات اسرائيلية داخل مزارع شبعا
التالي
الحوار السعودي – الإيراني: اقتراب تكتيكي