غزة تردع إسرائيل

حاول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تدوير الزوايا في تبريره إخفاقاته في عملية «الجرف الصامد». وقد وهب نفسه يوم الأربعاء وسام التزود بآلاف صواريخ اعتراض للقبة الحديدية، في محاولة لتوضيح المدى الذي يصل إليه في التفاصيل رئيس حكومة مسؤول. ولكن لماذا لم ينزل إلى سمك الأنفاق التي بنيت في أعوام حكمه الخمسة ونصف؟ ومن الخاص إلى العام، كيف أهمل الجيش الإسرائيلي لدرجة أنه منذ عودته إلى الحكم لا يملك الجيش أية خطة متعددة السنوات؟

عشية رأس سنة 1997، حاول نتنياهو قتل خالد مشعل، بعد رفض اغتيال موسى أبو مرزوق. بعد 17 عاما يرقد شريكاه في القضية: الملك حسين والشيخ أحمد ياسين في التراب. لكن نتنياهو، خالد مشعل وأبو مرزوق صاروا شركاء في المساومة، لتحقيق تسوية. ونتنياهو، قبل شهرين فقط، نادى بفصل القطاع عن الضفة الغربية، وفق مبدأ فرق تسد. اضطر للترحيب بكتائب دايتون التابعة لمحمود عباس التي هي عمليا فرقة أميركية، على شاكلة الفرقة البريطانية للجنرال جون غلوب في المملكة الأردنية في الخمسينيات، أيضا على الحدود الغربية. والمعنى هو إحياء فكرة الممر الآمن والربط بين جناحَي فلسطين حيث انسحاب جوهري إسرائيلي، بضغط عالمي، سيسمح بقيام دولة فلسطينية.
ونتنياهو ليس شخصا مبادرا، إنه يعرف تسويق أو تحليل وانتقاد الآخرين، فهذا جوهر عمل شركة بوسطن كونسلتينغ للاستشارات، حيث عمل في السبعينيات (حينما وصفه أخوه يوني بـ«المهاجر»، مع صديق من الجيش). فماذا كان بوسع شركة الاستشارات هذه أن تقول عن الكيان المسمى إسرائيل وعن مديره العام؟
عندما انتخب لأول مرة واصل نتنياهو، بتغييرات طفيفة، عملية مدريد وعملية أوسلو اسحق شامير، اسحق رابين وشمعون بيريز، كمعارض لما تجسد في الفكرة لكن كملتزم بالاستمرار الرسمي. وعندما انتخب ثانية واصل، بتغييرات طفيفة، من النقطة التي وصلها أسلافه إيهود باراك، أرييل شارون وإيهود أولمرت، من دون تفكير أصيل، خلاق، مختلف. فالخط الأساس هو إذًا الخط نفسه والفارق في الأساس في الطابع والخبرة.
لقد أنهت الامبراطورية الإسرائيلية توسعها وباتت تعيش آلام التقلص، كما كل أسلافها الذين لم يحذروا من التوسع الزائد. ووفرت عملية الجرف الصامد إثباتا خامسا خلال السنوات العشر الأخيرة على ارتداع إسرائيل الجديدة عن احتلال مناطق مأهولة بالفلسطينيين (وسوية مع لبنان 2006، من أية مناطق مأهولة). في 2002، في فترة «السور الواقي»، ارتدعت إسرائيل عن تنفيذ عملية «حماية البيت» في غزة، بعد أن تم تجنيد القوات الاحتياطية ونشر رئيس الأركان شاؤول موفاز أمر اليوم «باعتقال المطلوبين، وضرب المنفذين ومرسليهم، واكتشاف وسائل التخريب ومكافحة وضرب البنى الإرهابية». بعد ذلك جاء إخلاء غزة (وصف الجيش العملية بأنها «عون للإخوة»).
أمس الأول تبنى نتنياهو رسميا ما يقوله منتقدوه منذ سنوات وما كان يخطب ضده منذ استقالته من حكومة شارون: إسرائيل ليست مستعدة لتحمل عبء معالجة أمور حوالي مليوني فلسطيني في غزة. ويعني هذا أن نتنياهو، بشكل متأخر، يؤيد إخلاء غزة وأن الردع يعمل في الاتجاه المعاكس. وتبين أن الردع ليس فقط تحذير بهدم بيت العدو، وإنما أيضا قد يأتي للإقامة أو يتعلق برقبة إسرائيل إذا طلب الإغاثة.
وغزة كلها قذيفة هاون محشوة واحدة، تهدد بإطلاق نفسها لتنفجر لدى الجيران. وليس بوسع أي قوة عسكرية أن تفكك قنبلة موقوتة كهذه. فعملية «الرصاص المسكوب» حولت غزة إلى حفارة ضائقة وعمليات «نقر السقف» دفعت الأدمغة العملياتية في حماس للحصول على صواريخ أرض بحر ستطلق في المرة المقبلة، أو في تلك التي تليها، نحو منصات الغاز في البحر، في عملية «انقر الغاز». والمرة المقبلة قد تكون بعد أسابيع عدة، أو أثناء المعركة الانتخابية، كتحول قارص ضد نتنياهو. في العام 1996 نال المساعدة من عمليات حماس الانتحارية وتغلب على بيريز. في الانتخابات المقبلة، إذا ما تنافس، يكفي صاروخان وثلاث قذائف هاون لتساعد خصومه.
من الصيف الأخير، المستنزف ـ الطاحن، إذا أصر على التمسك بتعبيره – خرج نتنياهو مع حليف سياسي واحد، موشي يعلون، الذي اضطر لرعايته كولي عرش ضد جدعون ساعر والمتنافسين الآخرين على زعامة الليكود. وأظهر يعلون ولاء منقطع النظير، على شفا السجود العلني، لنتنياهو، عدا في قضية متفجرة واحدة وهي: تسريب سيناريو احتلال غزة من اجتماعات الكابينت. نتنياهو ويعلون وحدهما من حصلا على نسخة مطبوعة من العرض الذي قدمه الجيش. نسخة واحدة تم تهريبها وجرى نشرها نصا أو روحا.
وإذا كان يعلون يتحفظ عن ذلك علنا، ويعلن أن لا ضلع له بالأمر، يبقى مشتبه واحد. وبناء عليه، فإنه ليس بوسع المستشار القضائي للحكومة، يهودا فاينشتاين، أن يدحرج مطلب التحقيق لمدة طويلة، فيما فرضية العمل لدى المحققين هي أن النسخة سربت بالضرورة من محيط نتنياهو.
وطبقة كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي تدخل للسياسة بمكانة عالية وبدعوة مباشرة، بفضل الزي والرتبة العسكرية، وبشكل شبه دائم تثير الخيبة وخلال وقت قصير، لأن الجنرالات ورعاتهم متعودون على رؤية الآخر مجرد خلية في الهرم القيادي. هل من دون إحساس إنساني، وتودد للنشطاء والناخبين؟ ليس عندهم. ويعلون، وهو ليس استثناء، أسير لماضيه، يشبه بعض الشيء رابين، الذي ضبط نفسه عن كبح رئيس أركان متمرد (مردخاي غور، وموشي هاليفي) حتى لا يفعل به ما فعله رئيس الأركان رابين في علاقته مع رئيس الحكومة، أو مع وزير الدفاع، الذي يستمتع حاليا من هذه المقاربة هو الجنرال بني غانتس، والمتمتع المقبل، مثل رابين ويعلون في وقتهما، سيكون نائبه غادي آيزنكوت.
يعلون كان نائب رئيس أركان. تقدم لرئاسة الأركان، بعد أن كان رئيسا لشعبة الاستخبارات وقائدا لجبهة. وليس غريبا أنه قال لمراقب الدولة، في تقرير عن تعيين كبار القادة في الجيش قبل أربع سنوات، إنه يرى أن على رئيس الأركان أن يكون ذا خلفية في قيادة جبهة وفي رئاسة شعبة هامة في هيئة الأركان (استخبارات، عمليات، التخطيط). وحاليا هناك في الجيش فقط جنرال واحد يلبي هذا الشرط: آيزنكوت. يعلون أيضا أوصى بأن تنص وثيقة ملزمة على مشاركة رئيس الأركان، وزير الدفاع ورئيس الحكومة، في تعيين الجنرالات. وحسب يعلون، على رئيس الحكومة التدخل فقط في تعيين سكرتيره العسكري ورئيس شعبة الاستخبارات. وبقدر المعروف، فهذا ما فعله نتنياهو قبيل ترفيع العميد هرتسي هاليفي لرئاسة الاستخبارات.
والجيش الإسرائيلي، كما هو واضح من خطوات الجرف الصامد، بحاجة إلى نفض أساسي، ملزم أن يتم بالاتفاق على تشخيص المشاكل. غانتس في الشهور الأخيرة لولايته، لن ينجح في ذلك. وقال عنه جنرال قديم آسفا: «لقد دخل إلى القتال متراجعا وواصل السفر، بدلا من التوقف لتنظيم النفس والسير في الاتجاه الصحيح». فمن أجل رسم الاتجاه الصحيح، إذا اتفق الساسة عليه، في سياسة قومية أولا وفي بلورة برنامج محدث لبناء القوة العسكرية وتفعيلها، لن يكفي التربيع اللفظي والأحادي الجانب للدوائر، وخصوصا عدم أخذ العرب (أو الإيرانيين) بالحسبان.

السابق
اهالي العسكريين المخطوفين قطعوا طرقات في عكار
التالي
هل ذُبِح الجندي علي السيد؟