رحلة نديم البيطار

قليلون من يعرفون نديم البيطار اليوم، لا سيّما في الأجيال الأصغر سنّاً. أمّا أنا فقد عرفته جيّداً لأنّه من قريتي في عكّار (بينو)، ولأنّه قريب بعيد لعائلتي. لكنّني عرفته أكثر لأنّني استمعت إليه مراراً يتحدّث، وكان ذلك أواسط الستينات، ثمّ قرأت معظم كتبه، وتأثّرت به في أواخر ذاك العقد بحيث غدا عندي واحداً من أساتذتي المبكرين في العروبة.

وليس نديم، الذي رحل قبل أسبوع، معروفاً، لأسباب تتعدّى قلّة زياراته إلى لبنان. فهو، على الرغم من أنّه أنتج من الكتب ما يعادل إنتاج أكثر الكتّاب القوميّين العرب خصوبة، بقي عديم الصلة بما يجري من حوله على الأرض. لقد “اكتشف” مبكراً، في كتابه الضخم “الإيديولوجيا الانقلابيّة” ما عدّه “قوانين” في التطوّر تفضي لا محالة إلى الوحدة العربيّة.

هكذا لم تعد الريح، أيّة ريح، تهزّ جبل يقينه بحتميّة “القوانين” شبه الآليّة: فإذا انفصلت سوريّا عن مصر وانهارت دولة الوحدة، زاد إيمانه بالوحدة. وإذا هُزمت ثلاث دول عربيّة أمام إسرائيل في 1967، زاد إيمانه باقتراب تحرير فلسطين. وإذا انفجرت حرب طائفيّة في لبنان، زاد إيمانه بتفاهة الطوائف وشكليّة الطائفيّة، وبأنّ الاتّجاه نحو الوحدة العربيّة غالب لا محالة.

لقد أبعد نفسه عن الواقع ولم يعترف به فلم يعترف به الواقع في المقابل. ولم يخفّف من ذلك أنّ البيطار كان من أكثر الناس نزاهة شخصيّة ودماثة وتواضعاً.

والحال أنّ رحلته التي أفضت به إلى عزلة مديدة، مدرّساً في جامعة ديترويت، في الولايات المتّحدة، كانت ابتدأت في الثلاثينات. ففي حماسته، وهو مراهق، للملك العراقيّ غازي، الطامح إلى بناء الدولة العربيّة الواحدة، توجّه نديم إلى بغداد وعاد منها معتمراً الفيصليّة، وهي يومذاك قبّعة القوميّين العرب. وبعد سنوات قليلة أصدر كتابه الأوّل (الذي استثناه لاحقاً من إنتاجه) وكان عن القضيّة الفلسطينيّة.

وقد عدّ نديم نفسه ناصريّاً، من دون أن ينتظم في أيّ تنظيم ناصريّ. ذاك أنّ “قوانينه” أكّدت له أنّ قيام الوحدة العربيّة يتطلّب القائد الذي كانه عبد الناصر، كما يتطلّب وجود “الإقليم – القاعدة” الذي تمثّله مصر.

ولا شكّ أنّ السنوات الأخيرة التي لم أر فيها نديم البيطار، ختمت رحلته ختاماً مُرّاً، خصوصاً أنّ وفاءه لأفكاره يقلّل قدرته على احتمال الهزّة الجيولوجيّة التي ضربت العالم العربيّ. فهذا الأخير مُفتّت ومتفسّخ، أهمّ منتجاته الطائفيّة والعشائريّة وأخواتهما. أمّا وحدة البلد الواحد فتقارب المستحيل، فكيف بوحدة العرب.

وأمّا قضيّة فلسطين الجامعة فلم تعد تجمع الفلسطينيّين أنفسهم!

هل ثمّة من يستفيد من هذه السيرة لرجل بالغ الصدق في ما يقول وما يفكّر؟

اقرأ أيضاً: قرية «بينو» معلم أثري وسياحي في عكار

السابق
مَن لم يحمِ الأكثرية لماذا يحمي الأقلية؟
التالي
نجل رفسنجاني ضحيّة صراع والده مع المرشد الأعلى