البغدادي وإمبراطورية الوهم

لا شيء يضاهي جهل البغدادي بالدين سوى جهله بالتاريخ، فالرجل الذي أعلن، بثقة كاملة، دولة إسلامية في العراق والشام، تخيل أن جمع هذين «المركزين» الإقليميين في سلة واحدة، سلة الخلافة، هو عمل ممكن.

الحقيقة التي يجهلها البغدادي هي أنه، ومنذ ما قبل الإمبراطورية الآشورية وحتى «داعش»، لم يجر أي مشروع يهدف لبناء تشكيل سياسي، يتكون من العراق والشام، إلا وفقاً لنزعات إمبراطورية توسعية تعتمد الإلحاق والضم والهيمنة والإخضاع. فالحضارات القديمة التي كان العراق مركزها – السومرية والبابلية والآشورية- عانت طويلاً من تمرد الممالك الصغيرة المتمركزة في بلاد الشام. ولم تفلح الخلافة الإسلامية، بحقبتيها الأموية والعباسية، في تغيير هذه الحقيقة على أي مستوى كان. كما لم تنجح الدعوة القومية للبعثيين في خلق واقع مختلف. بل أن هناك من رأى أن الانشقاق الكبير في الأسلام، بين السنة والشيعة، حدث، في مستوى من مستوياته، نتيجة التنافس السياسي بين كل من هذين المركزين. وهناك من توصل، كـ «يوليوس فلهاوزن»، الى أن التشيع ذاته، كمذهب ديني، لا يعدو أن يكون تعبيراً عن شعور العداء لبني أمية من جانب ولاية العراق المغلوبة، وأن علياً بن أبي طالب رمز، حتى بعد غيابه، للسيادة المفقودة عند أهل العراق. وحتى الدولة الحمدانية، التي تأسست على قاعدة قبلية وعشائرية ومذهب شيعي في مناطق الفرات والجزيرة، انقسمت الى فرعي حلب والموصل. أما الإنشقاق الكبير بين البعثيين، في العصور الحديثة، فلقد اتخذ نفس المنحى الدرامي ولم يستطع الإفلات من منطق هذا التنافس التاريخي الدموي. فذهب العداء بين فرعي البعث العربي، العراقي والسوري، الى حد تحالف الفرع السوري مع الخصم التاريخي للعراق، ايران، ضد إخوتهم في الدم والايديولوجيا.

غير أن «الخليفة» ابو بكر الغدادي، لا يسعى الى بناء دولة في العراق والشام فقط، فالرجل يلوح بخريطة «إمبراطورية إسلامية» تضم، في ما تضم، اكثر من نصف مساحة أفريقيا وأكثر من ثلث مساحة أوروبا وما تيسر من مساحة آسيا. «دولة العراق والشام»، والحال هذه، ليست هي سوى ولاية صغيرة داخل امبراطورية كونية لم تخطر حتى على بال هارون الرشيد، الخليـفة الذي خاطب، يوماً، غيمة، من على شرفة قصره، قائلاً: «امطري حيث شئت، فخراجك لي».

السابق
المنقذ الأميركي!
التالي
حزب سليماني ’يُحاكِمُ’الجيشَ اللبناني!