مسيحيّو الشرق العربي ضحايا أرض الجهاد وأرض الميعاد

إنها ليست المناسبة الافضل للكتابة عن مسيحيي الشرق العربي في زمن التكفير المستشري. كنا حَسِبنا ان الابادة الجماعية، فكرا أوممارسة، ولّى زمنها، وكان آخرها في العصر الحديث النازية الهتلرية وسواها من ابادات “علمانية” او “ايديولوجية”. الا ان “داعش”، اعطت الابادة بعدا دينيا حاسما. هكذا صدرت فتوى طرد المسيحيين من الموصل، وهم اهل الكتاب الذين خُيّروا بين الاذلال والجزية، تبعهم الإزيديون الذين لا خيار لهم سوى قطع الرؤوس. ومشروع التطهير العرقي والديني الداعشي من الكفار والاشرار، مسلمين ومسيحيين وملحدين، متواصل. هذه الممارسات لم تخترعها دولة “داعش” الاسلامية السلفية، بل تبررها بحسب تفسير منحرف عن النص الديني.

في الاسلام ثمة موقع لاهل الكتاب وموقع آخر للكفار وبين الحالتين قد يحلّ الوحي الالهي على امراء الدين والدولة، لاسيما ان خيطا رفيعا يفصل بين الكافر والمؤمن بالنسبة لخاطفي النص القرآني. وبين دار الحرب (او دار الكفر، بحسب الاسلاميين الجهاديين) ودار الاسلام مسافة جدلية ملتبسة ومسائل اخرى ذات ابعاد دينية وفقهية بالغة التعقيد لا مجال للغوص في معانيها. والسؤال المحوري: لِمن الكلمةالفصل في المسائل الدينية المصيرية، ومن يفسّر اسلام القرن الحادي والعشرين على المستويين الفكري والعملي؟ فاذا لم تكن، مثلا، المملكة العربية السعودية الوهابية الحنبلية وملكها، خادم الحرمين الشريفين، اسلامية بما فيه الكفاية، في نظر الجهاديين التكفيريين من الجيل الاول (العتيبي وبن لادن) او الجيل الثاني او الثالث (الزرقاوي، “داعش” وسواه)، فمن يحدّد المعايير والمفاهيم في الاسلام في زمن تشتت المرجعيات والشرخ المذهبي العميق؟ الحالات الاجرامية وغيرها التي تُرتكب باسم الاسلام تلّقت الدعم المادي والمعنوي لعقود، ولغايات ومآرب متعددة، من دول وافراد وتنظيمات سياسية ودينية تعتمد مفاهيم اسلامية متشددة. وبمعزل عن الاوضاع السياسية ولعبة النفوذ والسلطة فان حالات التطرف الديني لم يتم التصدي لها بجدية وشمولية في العالمين العربي والاسلامي في السنوات الاخيرة. بكلام ادق، اقتصر التصدي على الجانب الامني، الا ان المناخات الثقافية والفكرية والدينية المتطرفة التي انتجت الحالات التكفيرية الالغائية ظلت قائمة، لا بل تعزّزت. الاديان كلها شهدت حالات تطرف واستبداد، ومنها المسيحية في القرون الوسطى في اوروبا “والحشاشون” في التاريخ الاسلامي، على سبيل المثال لا الحصر. في ازمنة مضت، ازدهر الاسلام وتوسع في زمن الخلافة الاموية والعباسية ووصل الى الاندلس في عقر دار اوروبا والغرب المسيحي.

وقد سادت التعددية الدينية والاتنية والثقافية في مراكز الحكم وخارجه، وكان للمسيحيين واليهود ولغيرهم موقع ودور، ومنهم اهل الموصل من السريان والكلدان والاشوريين وسواهم من الفرس والكرد. وجاء عصر الانحطاط والتراجع لقرون عديدة. في حقبة الاصلاح الديني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تمحور همّ الاصلاحيين حول مسألة تراجع المسلمين في شؤون الحكم والعلم والعصرنة بالمقارنة مع اوروبا، كما جاء في عنوان كتاب شكيب ارسلان، الداعي لوحدة المسلمين،”لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم”؟. كان الغرب آنذاك نموذجا يحتذى ولم يكن مصدر المؤامرة والشر. باريس بهرت الطهطاوي عندما زارها في القرن التاسع عشر، موفدا من الحاكم، وجمال الدين الافغاني جال العالم، شرقا وغربا، وطرح تساؤلات حول المفاهيم الدينية السائدة. اماعبد الرحمن الكواكبي فنادى في مطلع القرن العشرين بحصر دور الخليفة بالمسائل الدينية، اي بالتعبير المعاصر، فصل الدين عن الدولة. وفي السياق الاصلاحي عينه جاءت الطروحات التغييرية للشيخ الازهري محمد عبده، تلميذ الافغاني، وعلي عبد الرازق صاحب “الاسلام واصول الحكم”، وطه حسين واحمد امين وسواهم. كما ذهب آخرون في اتجاهات مغايرة، ابرزهم رشيد رضا في الدعوة الى السلفية.

بإيجاز، المدارس الفكرية والفقهية كانت متنوعة، وهي سعت الى تحسين اوضاع المسلمين بوسيلة الاقناع الفكري والجهاد السلمي من اجل غايات اصلاحية وليس سعيا وراء سلطة او تسلط. التحول المحوري بدأ في زمن الدولة الوطنية مع بروز تنظيمات اسلامية جديدة، ابرزها “الاخوان المسلمون” بقيادة حسن البنا في اواخر عشرينات القرن المنصرم. دخل الاخوان الشأن العام من باب العمل الدعوي والاجتماعي، لكن سرعان ما انخرطوا في لعبة السلطة واصطدموا مع عبد الناصر في بداية عهده. وفي ظل الناصرية وحقبة القومية العربية قُمِعت التيارات الاسلامية وازدادت تطرفا وعنفا. ومن ابرز واضعي التوجهات المتشددة للحركات الاسلامية المعاصرة ابو الأعلى المودودي في باكستان وسيد قطب في مصر، واخيرا عبدالله عزام، مُلهم “الافغان العرب” وتنظيم “القاعدة” في افغانستان. ففي حين تصدى المودودي لـ”الكفار” الهندوس في الهند وباكستان، كان تصدّي قطب لـ”الجاهلية” التي عاشها المسلمون، داعيا الى “الحاكمية” الالهية لأن الاسلام لا يقبل انصاف الحلول، وأعلن عزام الجهاد العالمي في كل مكان. وفي كل الحالات، شؤون الحكم والسلطة في الحقبة المعاصرة كانت بيد حكام اشداء، ولم يكن بينهم من ابناء الاقليات، المسيحية او غير المسيحية. هنا نصل الى معاناة المسيحيين، اهل البلاد الاصيلين. فهم ليسوا من الوافدين من ديار اخرى، ولم يأتوا مع الحملات الصليبية او مع حملات التتار والمغول. ولم يبنوا امبراطوريات أو انظمة سلطوية، دينية او علمانية، بل كانوا على هامش السلطة السياسية. برز منهم من كان صاحب كفاءة واختصاص مع الانفتاح الذي حصل بعد قيام الدولة الحديثة في مصر مع محمد علي وسلالته، وفي المشرق العربي بعد ادخال الاصلاحات في السلطنة العثمانية مع اقرار “التنظيمات” في منتصف القرن التاسع عشر. هذه الاصلاحات منحت المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، الا انها ادت الى ردود فعل عنيفة في عدد من الولايات العثمانية لاسيما في دمشق وحلب وفلسطين وجبل لبنان. الدور المسيحي الأهم في الشأن السياسي كان خارج الدولة والسلطة، على مستوى الفكر السياسي والايديولوجي والاحزاب السياسية. تأسست الاحزاب الشيوعية في لبنان وسوريا والعراق على يد نشطاء من اصول مسيحية، أرمن وعرب، ويهود، وفي مصر من نخب “الخواجات” وغالبيتهم من اصول اوروبية. فرح انطون وشبلي الشميل اطلقا الفكرالليبرالي العلماني في العالم العربي.

اما العروبة ومن بعدها القومية العربية فكان المسيحيون روادها، فكريا وتنظيميا، وكان ابرزهم ميشال عفلق، احد مؤسسي حزب البعث، وقسطنطين زريق، احد ابرز المفكرين المنادين بالقومية العربية. اما القومية السورية في الاطار الحزبي والايديولوجي الحديث فأطلقها انطون سعادة، ابن بلدة الشوير في جبل لبنان، الذي عاش مع اسرته المهاجرة الى البرازيل وعاد الى لبنان واسس الحزب السوري القومي الاجتماعي في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم. سعادة، صاحب الطرح الراديكالي الحاسم، أُعدم جسديا في 1949، وعفلق، المحاور والمهادن، أُعدم سياسيا في السبعينيات وامضى سنواته الاخيرة في العراق، بعد ان صدر حكم الاعدام بحقه في سوريا، ولم يكن في موقع مؤثر في القرار لا داخل الحزب ولا خارجه. الشيوعيون لم يكونوا احسن حالا، فتم استهدافهم في كل مكان. اما في ما يخص قضية العرب الاولى، فلسطين، قبل نكبة 1948 وبعدها، فالنخب المسيحية كانت سّباقة في التنبيه الى مخاطر المشروع الصهيوني، لاسيما بعد صدور وعد بلفور في 1917، ومنهم الراهب الماروني الاب بولس عبود والشيخ يوسف الخازن.

وفي ما بعد، مسيحيون علمانيون اسسوا “حركة القوميين العرب” في خمسينات القرن المنصرم وكانوا في طليعة من أطلق العمل الفدائي المسلح بعد حرب 1967، وفي مقدمهم جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة. وعلى المستوى الفكري العالمي برز ادوارد سعيد، وقبله شارل مالك، مدافعين عن القضية الفلسطينية بمعرفة موسوعية مميزة. في لبنان كان للمسيحيين خصوصية تاريخية وجغرافية وثقافية، وفي علاقتهم مع الفاتيكان وفرنسا، وتحديدا الموارنة وكنيستهم التي ساهمت في اطلاق نهضة علمية وثقافية منذ انشاء المدرسة المارونية في روما في أواخر القرن السادس عشر، في معزل عن الاوضاع السياسية السائدة في الامبراطورية العثمانية، قبل “المسألة الشرقية” وبعدها. هذا المسار المغاير عن الحالة العامة ساهم في تظهير طرح سياسي أنتج دولة لبنان الكبير في 1920 في ظروف مؤاتية لمشروع بدأ يتشكل في الوسط الماروني في منتصف القرن التاسع عشر واستُكمل لاحقا مع التقاء مصالح المطالبين بالدولة مع فرنسا في لبنان وسوريا، ومع بريطانيا في الاردن والعراق والجزيرة العربية. في لبنان المستقل، ساهم المسيحييون في انتاج المناخ الليبرالي والانفتاح الذي ميّز لبنان عن محيطه العربي على مستوى الدولة والمجتمع. وفي الشأن السياسي، كان للسياسيين الموارنة ادوار مفصلية في مجالات مختلفة، بدءا بالكتلتين الدستورية والوطنية والاحزاب المنظمة كحزب الكتائب الذي اسسه الشيخ بيار الجميل، وصولا الى فؤاد شهاب، العسكري الوحيد من جيل العسكر الانقلابيين الذي جعل من السياسة فن الممكن لخدمة الخير العام.

اصطدمت الاحزاب والقوى السياسية المسيحية في لبنان مع المنظمات الفلسطينية بعد ان تمدّدت عسكريا في المخيمات وخارجها وخاضت حروباً عبثية في مدن لبنان وقراه على اساس ان طريق القدس تمر في جونيه، على حدّ قول ابو اياد في 1976. مسيحّيو لبنان خَبِروا السلطة السياسية وكانوا في موقع القرار قبل 1975، وان تعثر في زمن الازمات الحادة، الا انهم تكبدوا خسائر كبيرة خلال سنوات الحرب لاسباب لا مجال للتوسع في ظروفها. في مرحلة ما بعد الحرب، تم استهداف المسيحيين عن سابق تصور وتصميم، سياسيا وديموغرافيا ومعنويا، في سياق سياسة تقاسم المغانم والنفوذ في زمن الوصاية السورية. الوضع يختلف بالنسبة الى مسيحيّي العالم العربي. ففي مصر، حيث يشكل الاقباط الاكثرية العددية لمسيحيي الشرق العربي، سادت الذمية السياسية والاجتماعية. هكذا ظل الاقباط خارج دائرة القرار السياسي وناضلوا منذ قيام حزب الوفد في عشرينات القرن العشرين، الذي ضم شخصيات قبطية، من اجل المساواة باسم المواطنية. طُبّقت عليهم قوانين جائرة تنتهك الاعلان العالمي لحقوق الانسان ولم تعترف الدولة بعيد الميلاد القبطي رسميا الا منذ سنوات قليلة. في السودان تم تطبيق الشريعة على المسيحيين في ظل الحكم الاسلامي الذي لم يدم طويلا. وفي العراق وسوريا كان المسيحيون وسواهم من المواطنين في ظل حكم انظمة سلطوية حيث الحزب الحاكم صاحب السلطة والقرار. اعطت هذه الانظمة الأمان للمسيحيين، شعبا ومؤسسات دينية، ولم تتبع سياسات تستهدفهم، خلافا لحالات الفوضى المستشرية بعد تفكك الدولة في العراق وانهيار النظام في سوريا ودخول البلاد في حرب مدمرة. في العراق، “داعش” ترتكب المجازروالفظائع وفي سوريا تنظيمات اسلامية متطرفة تخطف رجال دين أو تقتلهم وتأخذ راهبات رهائن وتدمر الكنائس والاديرة.

اما الاردن فيشكل حالة خاصة لافتة في ظل الملكية الهاشمية الحاضنة للتنوع الديني منذ نشوئها. من المؤسف ان يتساوى المسيحيون والمسلمون في الظلم والاستهداف في ظل الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. هكذا يؤمن الاحتلال “المساواة” صونا لسياسة تهويد شاملة تهدف الى افراغ فلسطين من اهلها، فلايبقى سوى المحتلّ الصهيوني. من مفارقات القدر ان تأتي “المساواة” بين المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة من العالم على يد المستبدّ الظالم: المحتل باسم “الحق الالهي” في فلسطين والتكفيري باسم الدين خارج فلسطين، بينما العالم العربي منقسم بين تطرف اسلامي قاتل واعتدال غير فاعل. ارض الجهاد لا يحدّها حدود وكذلك ارض الميعاد. وبين جهاد وميعاد، لن يبقى للحرية مكان وللتنوع مكانة. اما الانسان، الذي خلقه الله على صورته ومثاله، فهو ضحية بلا كرامة وحقوق أو جسد مقطوع الرأس. انها حالة تراجع حضاري وافلاس فكري ووصمة عار. اما المسؤولية فيتحملها كل صاحب سلطة، سياسية او دينية،على ارض البشر أو في الجنة الموعودة، في هذا الشرق العربي البائس.

السابق
’صدرك مش صدر كنافة’.. حملة مدنية لنزع حمالة الصدر
التالي
العرب في حيرة أم شلل؟