هل كان المشككون المسيحيون في الربيع العربي على حق؟

هل بالمستطاع، المكابرة اليوم، على صوابية التشاؤم الذي أبدته مرجعيات مسيحية، كنسية وسياسية، حيال الثورات الشعبية العربية؟ أمْ أنّ الأعوام الثلاثة، وقريباً الأربعة، التي مضت، إنما تدفع، بحصيلتها الإجمالية لمقاربة مختلفة كثيراً عن مجمل المواقف المسيحية، المندفعة والمرحّبة والمتقبّلة والمتبرّمة، للفترة الأولى من زلزال شهد ترنُّح عدد من الأنظمة، وتفسّخ وتشظّي عدد من المجتمعات؟

البديهيّ اليوم أنه عند مراجعة ما كان يدبّج من صفحات ورديّة عن المسار الذي ستسلكه الأمور في أوّل «الربيع العربي» ستظهر المواقف الشكّاكة والمرتابة، بل الرافضة والمحذّرة، من ثورات هذا الربيع، والمفاضلة رأساً بين الاستقرار والديموقراطية لحساب الأول، على أنها مواقف أكثر واقعية. فالموقف المتحمّس للربيع العربي لم يكن يرى في أعمّه الغالب الدم الذي نختبره يومياً في كذا بلد عربي في وقت واحد، ولا هذا الكم من الفوضى والعدمية، وهذه الاندفاعة الكارثية للذهنيات الإباديّة وتطبيقاتها المرعبة، وعندما خيض السجال بين «مسيحيي الربيع» وبين المسيحيين الذين رأوا في هذا الربيع ظلاماً، أو فوضى، أو مؤامرة، لم يكن أحد من الربيعيين يتصوّر أنّه سيأتي يوم تفرض فيه معادلة «الجزية أو الرحيل«.

من هذه الناحية، الموقف السلبي تجاه «الربيع العربي» في أوله، يبدو اليوم أكثر واقعياً بعامة، وأكثر واقعية مسيحياً، من الموقف الإيجابي. في الوقت نفسه، فإنّ هذه الواقعية لعبت على امتداد السنوات الماضية وظيفة تبريرية مفضوحة لخيارات متذاكية إنما غير ذكية ولا واقعية، وضارة عملياً. فربط مصير المسيحيين بمصير أنظمة استبدادية منهارة أو تدير حرباً أهلية هو في أحسن تقدير مغامرة عالية الخطورة، واقحام المسيحيين في الصراع المذهبي الإسلامي الداخلي ومن بوابة «تحالف الأقليات» المسلمة وغير المسلمة هو أيضاً غير ذكي، وغير واقعي، ومخلّ بالهويات الثقافية ومقوّض للمسارات السياسية، والحؤول دون ازدهار المناخات العلمانية والتقدمية ضمن البيئات المسيحية أو تحويلها الى أقنعة طائفية وإسلاموفوبية لا يمكن أن يخدم كثيراً خيار ازدهار هذه المناخات في البيئات المسلمة.

والأهم من كل هذا، أن خصوم الربيع من أوّله، وتحديداً بين المسيحيين، كانوا يفتون بالحفاظ على المسيحيين بإخراجهم من الواقع الحالي، وإبقائهم في قيد الواقع الأركيولوجي، آثار بشر ملحقة بآثار من حجر. من أصناف التبريرات التي قدّمت في هذا الإطار هو تعريف الجماعات المسيحية المستمرة في الشرق على أنها محميات إيمانية أولاً، وبقاؤها مشروط بأوليات الأمر.

لأجل ذلك، فإن الموقف اللاربيعي الذي يبدو واقعياً إذا ما قورن بالصور الوردية عند أنصار أول الربيع، يكشف عن طينته اللاواقعية في كل ما عدا ذلك، وهو يغفل أمراً أساسياً، وهو أن المسيحية دين كوني ورساليّ، وأنه من وجهة نظر مسيحية، لا يمكن أن يكون استمرار وجود المسيحيين في المشرق هو هدف «لاهوتيّ» يحقق لا يهمّ بأية وسيلة، بل إنّ استمرارهم ووسيلتهم على تأمين هذا الاستمرار واحد، وهو مسيحيتهم نفسها.

السابق
رسالة ديبلوماسية لمسيحيّي لبنان
التالي
بالصور: أصغر باربي بشرية