رسالة مفتوحة إلى السيد حسن نصر الله

ترددتُ كثيراً قبل أن أرسل إليكَ هذا الخطاب أيها السيد، تحسباً لكلمة فيه، قد تخدش صورتكَ وتغضّ من شأنكَ، ومن شأن محبيكَ ومريديكَ، وهم كثر في لبنان، وفي دنيا العرب والعالم. مهما يكن، أربأ أن يكون هذا مرادي، ولا أرمي من وراء هذه الكلمات التي أكتبها بمحبة حرة، وأوجهها إليكَ عبر هذه الصحيفة الكريمة، إلا الخير لكَ، ولرجال “حزب الله”، “الطاهرين الشرفاء” كما تسمّيهم، والخير كل الخير لهذا الوطن العزيز الغالي على قلوبنا جميعاً.

أحسبكَ تعرف من إسمي أيها السيد، أنني أنتمي بالهوية المسجلة في الدوائر الحكومية اللبنانية، إلى الطائفة الشيعية في لبنان، ولا أحسب من عائلتي في لبنان من ينتمي إلى غير هذه الطائفة، لكن أحب أن أقول في مستهل خطابي هذا إليك إنني لست “شيعياً” ولن أكون، ولست متديناً ولن أكون، وأعتبر هذه “التصنيفات” تقليداً يفسد الوصية، كما جاء على لسان “المسيح” في الأناجيل، وخروجاً على الإيمان الإسلامي، الذي يعلو على ما هو “شيعي” و”سني”، لا نور لي هنا ولا هداية، إلا الآية الكريمة من سورة “آل عمران” التي تقول “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
لا أريد أن أفهم حبل “الله” هذا إلا الإيمان برسالة تحضّ على عدم التفرقة بين الناس، لأن الناس ساعة ينقسمون لا يعودون مؤمنين، بل يصيرون متدينين متعصبين، وتبدأ بينهم الحروب، وفي الحروب يوارى الإيمان التراب، وتنبت الغرائز. أما التقي المكرم عند “الله” هنا فقد يكون مسلماً، أو مسيحياً، وقد يكون يهودياً أو بوذياً، وقد يكون ملحداً أيضاً، وكلنا اختبرنا في حياتنا بشراً لا يصلّون ولا يصومون، ولا يدخلون المعابد لكنهم، أقرب إلى “الله” من بشر متدينين يحجّون ويصلّون ويصومون!
عندي أن من الخطأ أن يقول امرؤ عن نفسه إنه “شيعي”، أو “سنّي” وإنه على نهج هذا الإمام أو ذاك. هذه “التوجهات” قد تكون محمودة العواقب في بيوت وأندية مغلقة، بين متصوفين وطبقات من الناس مثقفة وقديرة وواعية، تدرك معاني الكلم، وتعرف الفرق بين التدين والإيمان، لكن ساعة تهبط هذه “التصنيفات” إلى الشوارع والأزقة والقرى والدساكر، وخصوصاً في بلادٍ، معدلات الجهل والأمية فيها عالية، تتحول إلى عصبية هوجاء تهدد نسيج المجتمع، عندها يبدأ “الشحن الطائفي”، تقوم به شياطين فاغرة أفواهها، ودول لا تسعى إلا إلى مصالحها الخاصة!
حين يقول المتديّن إنه “شيعي” أو “سني” فهذا يعني أنه بدأ يتعصب، وأن القرآن في نظره ليس كافياً للوصول إلى “الله”، في حين أن المؤمن يكفيه حبل خلاص واحد هو حبل “الله”، العروة الوثقى التي تجمع الناس، وأما الحبال الأخرى فليست إلا “تصنيفات” تفرّق ولا توحد، وتوجد فجوات بين الناس، وطريقاً أولها جحيم في الأرض، وآخرها جحيم في السماء!
في الولايات المتحدة تأصلت شعلة الإيمان عند بعض رجال الكنائس، إلى حدّ صاروا يعتبرون أن من الخطأ أن يقول “مسيحي” عن نفسه إنه “مسيحي” لأن ذلك يدخله في باب التصنيف، ويظهره بمظهر مختلف عن الآخر، بل يقول عن نفسه إنه مؤمن، ومؤمن فقط. لهذا السبب، ولهذا السبب وحده، أكتب إليك هذا الخطاب يا سيد حسن، وأكتبه من منطلق إنساني، وقلب عامر بإيمان مجرد من أي هوية مذهبية أو دينية، لأن الهويات الدينية غير إنسانية، وكافرة حتى بمقاييس “الكتب المقدسة”، فهي توجد متدينين، يتعصبون، آجلاً أم عاجلاً، على من لا يدينون بدينهم أو بمذهبهم. وكلّ تفرقة بين إنسان وآخر، شكل من أشكال العنصرية البغضاء.
“المسلمون” مختلفون على كثير من الأمور، لكنهم متفقون على كتاب واحد هو “القرآن”، وبوحي من هذا القرآن أكتب إليك يا سيد حسن، وأترك كتب السيرة، وكتب التفسير والاجتهاد كلها، أتركها جانباً، ولا أعتدّ بما فيها، إلا ما يتطابق مع نص القرآن وروحه، ولا شيء آخر غير نص القرآن وروحه!
* * *
أنت أكثر من يدري يا سيد حسن، أن ما تشهده بلادنا من فتن وحروب هو من فعل التدين، والعصبيات المذهبية التي لا علاقة لها بالإيمان. والقرآن يقول: “قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”. أنت أكثر من يعرف يا سيد حسن، أن الخلافات بين “السنّة” و”الشيعة” بدأت تحرق أخضر الأرض ويابسها، وتؤدي إلى قتل الأبرياء وتشريدهم من قراهم وبيوتهم، وأخالك تضع اللوم على “خلايا نائمة” و”قوى من الخارج” تعبث بالأرض و”المقدسات”. هذا أمر لا أشك فيه، هو من السياسة التي لا أفهم منها شيئاُ، لكن ما أعرفه حق المعرفة، وأخالك تعرفه يا سيد حسن، ويعرفه القاصي والداني، وكل من نظر في كتبنا وتاريخنا، أنه لو لم تكن في ثقافتنا فجوات، لما تمكنت “قوى الشر” من التسلل إلى ديارنا والعبث بمصائرنا. هناك إذاً شيء فينا خطأ، موجود منذ القدم، ولا يزال. موجود من قبل أن تنشأ إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وقبل أن يسمع العرب بشيء اسمه الاستعمار!
نعم يا سيد حسن، هنا تكمن العلة وهنا يجب أن يبدأ الصراع أولاً، وليس على الحدود! أنت تعرف يا سيد حسن، أن مصدر هذه العلة ليس القرآن الذي هو، أو يجب أن يكون، منارة الإيمان الوحيدة، بل من السيرة التي دوِّنت بعد وفاة الرسول وكتبها مؤرخون مختلفو الأهواء والمذاهب، ولعبت فيها المصالح السياسية والدنيوية كل مذهب، لمصلحة هذا الخليفة أو ذاك، هذا الحاكم أو ذاك، ثم انقسم “المسلمون” شيعاً ومذاهب، قامت على أساسها دول كبيرة، منها عثمانية أخذت بالمذهب السنّي الحنفي، وأخرى فارسية أخذت بالمذهب الشيعي الجعفري، وذلك كله بتدابير سياسية مخالفة للقرآن وروح الإسلام.
هذا الخلاف بين مَن يسمّون أنفسهم “شيعة”، ومن يسمّون أنفسهم “سنة” أساسه في التدين، لذلك يقول القرآن “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر”. لم يقل القرآن من تدين بالله بل قال من آمن بالله، وإذ يقول القرآن في مكان آخر إن الدين عند الله الإسلام، فهذا لا يعني الدين الإسلامي المعروف بأركانه الخمسة، بل يعني التسليم لـ”خالق” هو في القرآن “رب العالمين وأرحم الراحمين”.
أركان الإسلام ليست خمسة، ولا يذكر القرآن عددها، وكل ما في القرآن من أركان الإسلام، أما الأركان الخمسة المعروفة، فهي من وضع فقهاء فسّروا الكتاب على هواهم لخدمة الحاكم. لا يكفي أن يعتمد المسلم الأركان الخمسة (الشهادة والحج والصلاة والصوم والزكاة) ليكون مسلماً، الإسلام قيم أوسع من ذلك بكثير، والدليل أن هناك من يعتمد هذه “الأركان الخمسة” ويقول عن نفسه إنه مسلم، ثم نراه يقتل الأبرياء! أركان الإسلام إذاً كثيرة، أهمها الدفع بالتي هي أحسن، والمودة والرحمة، والرفق باليتيم والسائل والمحروم، وهذه أهم من أركان، مثل الحج والصلاة والصوم والزكاة، لأن “الله” يريد رحمة ولا يريد ذبيحة!
هكذا أفهم الإسلام يا سيد حسن، ولا أريد أن أفهمه تمذهباً على نهج هذا الإمام أو ذاك، أو على نهج هذا الخليفة أو ذاك. أفهمه قرآناً يقبل الناس جميعاً، ولا يرفض منهم إلا اللصوص والمجرمين والسفاحين والقتلة، وهؤلاء هم الكفرة في نظر كل مؤمن، بغض النظر عن لونه وجنسيته ومعتقده. أريد أن أفهم القرآن كتاباً يقبل الناس جميعاً، بمن فيهم الملحدون واللاأدريون، لأن هؤلاء قد يكونون بشراً مسالمين. هذه الطريق الوحيدة في رأيي لفهم الإسلام، وكل فهم أو تأويل آخر للآيات ضرب من الكفر، وجنون يبقي الحروب على أرضنا دائرة، لا تجلب غير الدم والندم والفقر والمرض والجهل وتعدد الولاءات، وتبقي الصراع بيننا في الدين، ومع كل دين، مشتعلاً أبداً، وإلى أبد الآبدين!
مَن منا، ومن الذين كتبوا تاريخنا، عاصر الرسول وقال إنه أوصى بالبيعة لعلي بن أبي طالب؟ مَن منا، ومن الذين كتبوا السيرة النبوية، حضر اجتماع السقيفة ورأى المسلمين يبايعون أبا بكر الصدّيق خليفة، بينما علي بن أبي طالب مشغول بغسل جثمان الرسول؟! مَن منا، ومَن كتبوا تاريخنا، شهد موقعة الجمل بين علي بن أبي طالب وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وماذا قيل فيها وما جرى؟ وقد تكون هذه الواقعة من نسج الخيال، دوّنها كتبة مؤرخون لبث الفرقة في قلوب الناس!
هذه عيّنات من مئات القصص التي نقلها إلينا مؤرخو السيرة، ودوّنوها في صحائف لا نملك صحيفة أصلية واحدة منها، ودوّنت بعد نحو مئتي سنة من وفاة الرسول، وهو ما يوازي اليوم ألف عام! سير لعبت فيها أهواء المنافع والمصالح، حتى أن ابن هشام نفسه، واضع أول كتاب في السيرة النبوية، اعترف بأنه نقلها عن سيرة ابن إسحق بعدما هذّبها وشذّبها، وسيرة هذا الأخير مفقودة، ولا نعرف عنها شيئاً!
مَن منا يستطيع أن يستخلص الحقيقة التاريخية من سير جاءت إلينا بطرق “العنعنة”؟ لا أحد في العالم يمكنه أن يحسم في هذه الأمور، لأن لا أحد منا عاصر الرسول والخلفاء الراشدين وغير الراشدين. ثم ما علاقة ذلك كله بالإيمان على أي حال؟! هذه أمور من قشور الدين وليست من لبابه. إذا قال “الشيعة” إن علياً أحقّ بالخلافة من غيره، فهل يعني ذلك أن “السنّة” ذاهبون إلى الجحيم، وإذا قال “السنّة” إن أبا بكر الصديق أحقّ بالخلافة، فهل يعني ذلك أن “الشيعة” ذاهبون إلى الجحيم؟!
هذه أمور لا تفيد شيئاً، وتجلب الضرر والضغائن والأحقاد. لذلك يتعين على المؤمن الصادق، أن لا يركن في إيمانه إلا إلى القرآن، وإلى القرآن وحده، لأن الإسلام ليس علي بن أبي طالب، ولا هو أبو بكر الصديق، ولا هو عمر بن الخطاب، ولا هو محمد بن عبد الله الذي جاء في الكتاب أن عليه البلاغ وعلى ربه الحساب. القرآن هو الكتاب الوحيد المجمع عليه بين المسلمين، وهو كافٍ ليجعلهم مؤمنين لا متدينين، إذا عرفوا كيف يقرأونه قراءة إنسانية، لا قراءة دينية، ويتصالحون به مع نفسهم ومع الناس، كل الناس في هذا العالم، وكلّ تبنٍّ وتعصب لشيء في السيرة لا يتطابق مع القرآن ضرب من الكفر. لذلك على المؤمن بكتاب “الله” أن يتوقف عن القول إنه “سنّي” أو “شيعي” أو “وهابي” أو “إسماعيلي” بل “مؤمن برب العالمين” وهذا وحده يكفي، و”كفى بالله شهيدا”.
أعرف يا سيد حسن أن هذا مطلب عسير على السائرين على نهج الإمام علي، وأنت من صرح غير مرة بأنك من شيعة علي، وبأنك ستقاتل الصهاينة قتالاً كربلائياً. أعرف ذلك وأعرف كم هو عزيز عليك هذا الشعور الدفين الذي ورثته عن آبائك وأجدادك، وأعرف أيضاَ كم كان هذا الشعور عزيزاً عليَّ وأنا صغير، يلهج أبواي باسم “الله” ليلاً ونهاراً، ويذكران محمداً وعلياً والحسن والحسين، ومن جاء بعدهم من الأئمة، ويبكيان أشد البكاء على مصرع الحسين في عاشوراء. هكذا كانت تفعل والدتي الراقدة عظامها في السفح المطل على قريتنا في الجنوب، وهكذا كان يفعل والدي الذي حجّ ولم يعد، ودفن جثمانه في البقيع. أذكره يصطحبني وأنا طفل صغير، إلى المدرسة العاملية في بيروت لحضور مراسم عاشوراء، فأحزن لبكائه الخافت، وأرى الدموع تنهمر على خديه، وهو يستمع إلى بولس سلامة يتحدث عن مآثر علي والحسن والحسين، ويقول لوالدتي عند عودتنا إلى البيت “لقد أبكتني كلمات هذا المسيحي أكثر مما أبكتني كلمات المسلمين”!
كان هذا الوالد متشيعاً لعلي وأهل بيته، لكنه كان رجل إيمان قبل أن يكون رجل دين. لم يكفّر أحداً، ولا أذكر أنه قال في حياته كلها، كلمة سوء في الصحابة. لم يتردد في إرسالي، أنا وأخوتي، إلى مدارس المقاصد “السنية”، وكان يصلّي في مساجد “السنّة”، وكان من شركائه في التجارة، وأقرب الناس إليه من “السنّة” والمسيحيين، وكان البيت القديم الذي استأجره لنا، البيت “الشيعي” الوحيد في حي من أحياء بيروت “السنّية”!
أعرف يا سيد حسن كم عزيزة عليك هذه “الخصوصية الشيعية”، وكم عزيزة عليك “عاشوراء”، بمعانيها ورموزها ودلالاتها، لأني عشتها طفلاً وصبياً يافعاً، ولا أرى ضيراً إذا كانت مناسبة إيمان، لا رصاصاً في الهواء ولطماً على الخدود، لكن ما يحزّ في قلبي حقاً أن تتحول هذه “الخصوصية الشيعية” إلى عصبية، وأن تكون وحدها أو ما شابهها من “الخصوصيات” أساًساً لهذا البلد الجميل الذي لا وطن لنا غيره، ونريده أن يكون وطناً للجميع، سيدا حراً ومستقلاً.
كل طائفة في لبنان لها “خصوصيتها” المميزة، العزيزة على كل فرد من أبناء هذه الطائفة أو تلك. لا بأس في هذا التعدد، الخطر يكمن ساعة تتحول هذه “الخصوصية” إلى سياسة وسلاح، وتكون فيها غلبة طائفة على أخرى، عندها تتحول إلى عصبية هدامة وتثير نعرات “خصوصيات” الآخرين وغرائز دهمائهم، وتدخل الوطن في خطر. تظهر هذه الغلبة في خلط الدين بالسياسة، أو حين يكون نظام البلد طائفياً، كما الحال في لبنان. من هنا نفهم أن الدولة الطائفية دولة كافرة، غير إنسانية، عنصرية تصنّف مواطنيها على أسس دينية.
إذا سألتني يا سيد حسن عن” دولة الإيمان” المرتجاة، فسأقول لك إنها ليست “ولاية الفقيه” حتماً، وليست “دولة العراق والشام” حتماً، وليست “دولة القاعدة” ولا “دولة الأخوان المسلمين” حتماً، ولا إمارات “طالبان” و”جبهة النصرة”، وكانتونات العلويين والدروز والموارنة. هذه كلها لون واحد، عقل واحد ونهج واحد، “خصوصيات” أحادية، لا مكان فيها لروح آخر، وعقل آخر، وفكر آخر.
الدولة المدنية هي دولة الإيمان الوحيدة، وهذه وجدت في الغرب بعد صراع مر مزمن بين الغريزة والعقل، بين الجهل والعلم، وبين التدين والإيمان! إنها الدولة الوحيدة التي تحفظ حقوق الناس، ويتساوى فيها المواطنون أمام القانون، هي “دولة الله” الوحيدة على الأرض، وما عداها كفر وعنصرية وحروب.
ألم يقل الشيخ الإمام محمد عبده “ذهبت إلى الغرب فرأيت إسلاماً ولم أر مسلمين، ثم عدت إلى بلاد المسلمين فرأيت مسلمين ولم أر إسلاماً”!؟
هذا الإسلام الذي وجده “رائد الإصلاح” في الغرب، لم يكن إلا في كنف الدولة المدنية. محمد عبده هو الذي قال: “الإسلام مجموعة من القواعد العامة يقتدي بها البشر في المجتمع والحكم، لكنه، أي الإسلام، لم يأت بقوانين تفصيلية، وعلى البشر أن يستعملوا عقولهم في وضع التفاصيل”. محمد عبده هذا هو الذي قال أيضاً إن الإسلام محجوب بالمسلمين، ونادى بتعليم المرأة، وقال إن العدل لها لا يمكن أن يتحقق في تعدد الزوجات، وعارض الحجاب والنقاب، وقال إن لا نص في الشرع يوجبهما، وإنهما “عادتان ناتجتان من الاختلاط بأمم أخرى”. محمد عبده هو الذي وقف ضد التكفيريين والمتزمتين، وقال قولته الشهيرة “إنما هو دين أردت إصلاحه وأحاذر أن تقضي عليه العمائم”!
سيقول المتدين المتزمت إن الدول المدنية من صنع البشر، ويدعو إلى دولة دينية، لأن القرآن يقول: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”. هذه الدولة الدينية التي يريدها المتدين المتزمت، لن تكون “دولة الإيمان”، بأي شكل من الأشكال، بل دولة الدين الواحد، والمذهب الواحد، وستقوم على الغلبة والقهر والتعسف، وتعتبر من ليس من دينها ومذهبها، مواطناً من درجة ثانية وثالثة.
أكتب هذه الرسالة وأنا في بريطانيا، واقول إنه في السنوات الطويلة التي عشتها في هذا البلد، لم أسمع من قال عن نفسه إنه كاثوليكي أو بروتستانتي. هنا توجد كنائس للمسيحيين من جميع المذاهب، وكنس لليهود، ومساجد للمسلمين وحسينيات للشيعة، وخلوات للدروز، وأديرة ومعابد للبوذيين، وصنوف متعددة من أمكنة العبادة لكل البشر. الكل يمارس حقه في العبادة، لأن بريطانيا دولة مدنية علمانية متحررة من الغرائز الدينية، ولو كانت عصبية كاثوليكية أو بروتستانية، لما ضمت هذه “الشعوب والقبائل”، لذلك هي أقرب إلى القرآن الذي تقول آياته “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”!
بعد خروج الإسلام من الأندلس، لم تعد إسبانيا “الكاثوليكية”، تسمح ببناء المساجد. بقي الوضع على هذا النحو مئات السنين، ولم يتغيّر إلا يوم أصبحت إسبانيا دولة مدنية متسامحة، عندئذ سمحت ببناء المساجد، وفي الشرق دول “إسلامية”، لا تسمح ببناء الكنائس، وهناك دول مدنية علمانية تسمح ببناء مساجد ودور عبادة لمن يشاء، فأي دولة هي الأقرب إلى “الله” والإنسان إذاً؟! هل التي تحجب “الله” وتفتح هوة ضيقة لرؤيته، أم تلك التي تشرّع طرق الإيمان كلها لرؤية “الله”؟!
القرآن يقول في سورة البقرة: “ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله”، ألا يعني هذا أن علينا أن نفتح نوافد العقول والقلوب، وأشرعة الزمان والمكان لنرى “الله” أنى اتجهنا، بدلاً من أن نراه من فوهة ضيقة؟!
صدِّقني يا سيد حسن، الدولة المدنية، هي الدولة الوحيدة التي تحفظ هذه “الخصوصية” الغالية عليك، وتحفظ “خصوصيات” الآخرين، وتمنع الحراب والخراب. فيها يصبح لبنان وطن الإنسان والإيمان، ومنارة حضارية في هذا الشرق، ويصبح عن حقّ بلد العائلات الروحية، لا بلد الطوائف والتزمت الديني البغيض. يصبح دولة قوية منيعة، لا تقوى أبواب الجحيم عليها، ولا يقدر أحد على خرق جدرانها، وأمامها تصغر إسرائيل في عين العالم، وتتغير كما تريدها أنت أن تتغير، ولا تكون أرضاً لليهود وحدهم.
لا أخاطبكَ من وجهة نظر مثالية يا سيد حسن، بل من وجهة نظر واقعية وواقعية جداً، فأنا أعيش في الغرب منذ سنين، وأعرف خبث الصهاينة وذكاءهم ودهاءهم، وأعرف كم هم شطّار في إستثارة العواطف، وكيف يروّجون لبلدهم، بينما نحن ضعفاء، تتنازعنا أهواء وعصبيات هدامة، تظهرنا أمام العالم همجيين، وسفاحين، وأشراراً وقتلة وإرهابيين.
لبنان المدني العلماني الحر، السيد المستقل هو لبنان “الوحيد” الذي سيهزم إسرائيل، ويظهر بشاعتها أمام العالم. سيحاربها وينتصر عليها، لا بالعصبية وغلبة السلاح، بل بإظهار وجهها العنصري البغيض، وستكون بيروت هذه المرة، لا أورشليم القدس، مدينة النور والسلم في هذا الشرق المعذب.
أسمع وأقرأ عن “يهود” كثيرين في أوروبا وأميركا، من كبار المفكرين وأساتذة الجامعات، مَن هم ضد الصهيونية، ومنهم مَن يعتبر إسرائيل مصدر الشر، وسبب المشكلات كلها في الشرق الأوسط. هؤلاء يجب أن تستضيفهم دولة لبنان المدنية، ليخاطبوا العالم من بيروت بلغة حضارية إنسانية، ويخلّصوا اليهود أنفسهم، من هذا الكيان القائم على القهر والظلم والخرافات. حين يتغير لبنان ويشفى من عصبياته الدينية، تصبح إسرائيل دولة ضعيفة ومكروهة من العالم، ولا تعود لترسانتها المسلحة أي قيمة.
صدِّقني يا سيد حسن إذا قلت لك إننا لن نتمكن من إظهار وجه إسرائيل البشع، إلا إذا اعتمدنا هذه التدابير. أما السياسات القائمة على العصبيات الدينية، فستبقى “مثل العسل” على قلب إسرائيل، تستخدمها ذريعة، وتقول للعالم: انظروا ما يفعل العرب بالعرب، وما يصنع المسلمون بالمسلمين وغير المسلمين؟ أتريدون أن نصنع السلم معهم، ونعيش بينهم؟ هكذا تستمر فصول القتل العبثية، وتفعل إسرائيل أفعالها في غزة، وليس هناك من يحاسب. تفتك بالفلسطينيين وتدمر بيوتهم، بحجة محاربة الإرهاب، والدول القوية تشاهد وتشهد لها، وتعطيها حقاً في الدفاع عن نفسها!
حين يرى العالم كيف يقتل العرب العرب، وكيف يذبح “المسلمون” أبناء وطنهم الذين ليسوا على دينهم أو مذهبهم، وكيف تستغل الصهيونية العالمية حروب القبائل العربية، هل نستغرب بعدئذ، إذا لم يكن للدم الفلسطيني الثمن الذي يعطيه العالم لدم اليهود؟! لا فائدة ترجى على المدى الطويل، من مجابهة الصهيونية بعصبية دينية، لأن عصبية اليهود تجمعهم وتوحدهم، في حين أن عصبيات “المسلمين” تفرقهم قبائل وشيعاً، وتجعل الحروب بينهم أشد فتكاً من حرب إسرائيل عليهم.
سمعتكَ تقول يا سيد حسن غير مرة، إن “حزب الله” هو الحزب الإسلامي الشيعي الإثني عشري الإمامي، وإنك لن تنسى القدس، ولن تنسى فلسطين، وسمعتُ أتباعكَ يقولون في أحد أناشيدهم “حربنا ليوم الحشر وما في ولي إلا عليّ”. قد لا يفوتكَ يا سيد حسن إذا قلتُ لكَ كلاماً أحسبكَ تعرفه، وأخال مَن حولكَ لا يريدون قوله لكَ، لكني سأقوله لك وأمري إلى “الله” كما يقول المؤمنون، إنك لو جهزتَ جيشاً كربلائياً، وحررتَ القدس وكامل التراب الفلسطيني، لن تربح معركة القلوب والعقول في هذا الشرق، لأنه منطقة عاصفة تحركها الغرائز الدينية والقبلية والمذهبية أكثر مما يحركها عامل آخر. هذا التحرير إن تحقق، فسيكون عظيماً في نظر أتباعكَ ومناصريكَ، لكنه لن يكون عظيماً في نظر الغلاة من الطوائف الأخرى، لأنه سيثير ريبتهم وشكوكهم، مثلما أن الشيعة سوف يرتابون إذا سمعوا أن “داعش” جهزت جيشاً حرّر القدس وكامل فلسطين التاريخية، تحت تأثير إحساس دفين، يُشعرهم بأنهم سيكونون الضحية الثانية بعد اليهود!
هذا كله ولم نتحدث بعد، ونأخذ في الاعتبار بعد، مشاعر مَن هم ليسوا “مسلمين”، من مسيحيين وإيزيديين وشبك ومندائيين وصابئة، وغيرهم من الأبرياء الذين يتعرضون في هذه الأيام للتهجير والقتل والتعذيب، على يد “قوات دينية”، بينما فلسطين مغتصبة، لم يتحرر منها شبر واحد بعد!
“العصبيات تولد العصبيات وتأكل الروح”، هذا قول جرماني قديم. لننظر إلى ما حلّ بالعراق وأهل العراق، ونتساءل: أليس “داعش” السنّي نتيجة طبيعية لحركة شيعية إسمها جيش المهدي؟! ألم تكن ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في صيدا عصبية “سنية” رداً على عصبية، كان وأصحابه يقولون إنها “شيعية”؟ لنسمِّ الأشياء بأسمائها يا سيد حسن، فالموضوع ليس مسألة مَن عنده حق، ومَن ليس عنده حق، ومَن مرخَّص له من الدولة ليقاوم، ومَن ليس مرخَّصاً له ليقاوم، والمسألة ليست ثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة”. هذا كله سياسة. المسألة أبعد من ذلك بكثير، تتصل بثقافة المجتمع القائمة على التدين التي تُنشئ في مقابل كل عصبية دينية ومذهبية، عصبية مماثلة! من هنا تتضاعف الحاجة إلى “دولة الله” المدنية، لأنها ستكون دولة كل الناس، لا دولة إمارات مذهبية، يعتقد القيّمون عليها أنهم يأتمرون بأمر السماء، والسماء منهم براء!
أحسبكَ تعرف السبب وراء هذا التحفظ يا سيد حسن، وتعرف أن أي جيش إسلامي مذهبي، سوف يثير مشاعر الفئة الأخرى، ما يعني أن علينا قبل أن نفكر في فلسطين، أن نتوحد في الإيمان ونخلع عن أرواحنا أردية التصنيف المذهبي والديني. عند ذلك، وعند ذلك فقط، تبدأ إسرائيل بالسقوط، من غير أن نطلق عليها صاروخاً واحداً.
لن ينفع القول إننا نحتاج إلى عصبية دينية لنواجه العصبية اليهودية في فلسطين، حتى لو صحّ ذلك في مرحلة من الزمن، وحققت عصبية من لون واحد، إنجازاً مهماً في الصراع ضد إسرائيل كما حقق “حزب الله” “الشيعي” مع دولة الصهاينة، ستنشأ في مقابل كلّ عصبية “شيعية”، عاجلاً أم آجلاً، عصبية “سنية” تنسى “العدوّ الأكبر” إسرائيل، لتواجه “العدوّ الأقرب”، “حزب الله”، ويتغير إسم هذا الحزب في أدبياتها ويصبح “حزب الشيطان”. أليس هذا ما يحصل الآن يا سيد حسن؟ هنا في الشرق، “مهد الرسالات”، تنبت العصبيات كالفطر، وتجري في “الأرض المقدسة” أنهار من الدم قد نعرف منابعها، لكن هيهات أن نعرف أين ستكون مصباتها!
ها هي العصبية اليهودية قد حققت حلم أرض الوعد، وأسست دولة إسرائيل، فهل حققت لليهود الأمن والآمان؟ في تاريخهم الطويل لم يرتاحوا، وهم بما يملكون من ذكاء ودهاء ومال ونفوذ، ما زالوا قلقين ومعذبين، لأن العصبية التي تأكل أعداءها تأكل ذاتها أيضاً. وقد عاش اليهودي المسالم مع المسيحيين والمسلمين في هذه المنطقة مئات السنين، إلى أن جاء إليها صهيوني هارب من عصبية نازية، فلوّث مناخها، وأفسد حياتها وحياته وحياة الجميع.
لا يزال أمام الغرب “العظيم” أن يتعلم كثيراً من القوى الروحية الهائلة التي في الشرق، وهناك الملايين من أبنائه يتركون بلادهم كل سنة هرباً من المادية الجافة، بحثاً عن الصلاة والدفء والسكينة في القرى النائية في الصين والتيبت والهند والهملايا. هم لا يأتون إلى “أرض الرسالات السموية” لأن “أرض الرسالات السموية” مزروعة بالرايات والحراب، وممنوع عليهم أن يدخلوا “أماكنها المقدسة”!
* * *
كثيرون عيّروكَ بسلاحكَ يا سيد حسن، وبقيتَ على كلمتكَ لا تتزحزح، وقلتَ لهم ولا تزال تقول إنكَ لن تسلّم سلاحكَ إلا إلى دولة قوية عادلة. هذا كلام رائع حقاً، لكنك لم تقدم لنا أوصاف هذه الدولة القوية العادلة التي تريدها. مهما يكن، فسأضمّ صوتي إلى صوت الذين يوافقون على كلامكَ، وأتوسل إليك ألاّ تسلّم سلاحك إلى هذه الدولة الطائفية المريضة التي يتحكم بمصيرها رجال سياسة من القرن الثامن عشر، بل سلِّمه إلى دولة مدنية عصرية، لا تكون المناصب فيها حكراً على الطوائف، ولا يعلو فيها أحد على القانون. يبقى الرجاء أن تكون أنتَ يا سيد حسن، من الممهدين لبناء هذه الدولة المدنية الحرة، التي في كنفها وحدها تتلاشى العصبيات الدينية والمذهبية، ويتعزز الإيمان الحقيقي.
صدِّقني يا سيد حسن إذا قلتُ لكَ إن لا حلّ آخر هناك، وهذا الحلّ ليس من عندي، أنا المواطن البسيط، إنه خلاصة تجارب وخبرات شعوب وصلت إلى مراحل عظيمة من التطور والتقدم والإزدهار، ونحن لا ينقصنا أن نكون مثلها، إذا عرفنا كيف نتحرر ونستخدم العقل الذي لا إمام غيره، كما يقول شاعرنا العظيم الضرير البصير، أبو العلاء المعري.
* * *
كنت أريد أن أنهي خطابي إليك أيها السيد بصوت أبي العلاء، لكني في اليوم التالي جلستُ مع صديق لي من أهل الثقافة، في حديقة “هايد بارك” في لندن، نتداول في شؤون بلدنا، ونسأل أنفسنا السؤال الحارق: كيف يحدث هذا الذي يحدث؟ وكيف يسير وطن وشعبه إلى الوراء؟ ثم سألت صديقي رأيه في هذا الخطاب. أنعم النظر فيه، ثم رفع رأسه وقال لي: هل أصابكَ مسٌّ من جنون؟ تطلب إلى الأمين العام في “حزب الله” أن يمهد لإقامة دولة مدنية في لبنان، وتنسى علاقة هذا الحزب بالجمهورية الإسلامية في طهران، والوضع الإقليمي في المنطقة، وتتجاهل ما يمكن أن يفعله تجار السياسة الماكرون في لبنان، ليصدّوا أي محاولة تفقدهم مناصبهم الطائفية.
أجبته: إذا كنت أطالب المسؤول الأول في “حزب الله” بدولة مدنية، فلأنني مواطن من لبنان، وليس من إيران، ولأن أصولي وأصول أهلي وأهله من جبل عامل، ولأن الدولة المدنية في اعتقادي هي “دولة الله” الوحيدة على الأرض، والحلّ الوحيد لبلد شعبه موزع على 17 طائفة، لكل منها أميرها! زدت فقلت له متسائلاً: إذا لم تكن الدولة المدنية هي الحل، فما هو الحل إذاً؟ أهو في هذه الدولة الطائفية العنصرية التي تجهّز لشعبها عرساً من الدم كل عشر سنين، أم هو في “ولاية الفقيه”، أم في “دولة العراق والشام”، أم في الامارات الإسلامية غير المتصالحة، أم في دويلات القبائل المتنازعة؟
سكت صديقي وراح يسرح نظره على امتداد بحيرة الحديقة، وها أنذا الآن على وشك السكوت يا سيد حسن، وأقول كما يقول المؤمنون بعد إذاعة الوصية: “اللهم إني بلغت، اللهم إني بلغت”، وأستلهم كلمات عظيمة من خطبة الإمام القائل: “لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع”!
في الختام لا أملك يا سيد حسن إلا السلام عليكَ، والسلام على مَن هم أطهر الناس وأشرف الناس، والسلام على المسالمين والأخيار في هذه الأمة، وعلى كل مَن آمن واتّبع الهدى، وأحب الناس جميعاً.

السابق
عباس: مصر ستدعو الفلسطينيين والاسرائيليين للعودة للتفاوض
التالي
مقتل ضابطين من الحرس الثوري في دمشق