أغاني الإيزيديين وملاحمهم

“أثلجت قلبي يا ضيفي/ بالله لا أريد منك المال/ لا أريد منك جرناً من شجرة البخور في حقل بنافي/ ولكني أريد منك/ خيمة من أربعة وعشرين عموداً/ على جبل كوكب عشيرة الملان/ وجه الخيمة للظل/ وظهرها للشمس/ وسأطلع على أعلى سقفها/ وأنادي ثلاث مرات/ وبأعلى صوتي:/ حرام عليَّ الرجال/ حرام عليَّ الزواج من بعد عيني/ عزيز القلب درويشي عبدي الفارس المغوار” (مقطع من ملحمة درويشي عبدي المغناة)

روح أبية، يمتاز بها الإيزيديون، هي الروح الكردية الأصيلة التي يحتفظون بطبعتها الأولى، من دون أن يحنوا هاماتهم أمام جبروت، ما دام ثمن ذلك زهيداً في عرفهم، إذا ما قورن بكرامتهم، وشرفهم. لسان حالهم مرافعة طاووس ملك، أمام الخالق، وهي: “طاووس ملك من نور ذاته/ المخلوق الأول الذي خلقه الله/ قبل أن يخلق الملائكة الستة الآخرين/ لم يسجد إلا له/ أمره بالهبوط إلى الأرض/ قال:/ كيف أسجد لغيرك وأنت الذي أوصيتني/ ألا أركع إلا لجلالتك ثم كيف أسجد لآدم/ الذي هو من تراب وأنا مخلوق من نورك؟” (من حوار ملكي طاووس مع الله).
بعيداً من التطواف في فضاءات النصوص الدينية، تعكس الأغنية الشفاهية الإيزيدية، صورة حياة المجتمع الإيزيدي، بل التاريخ الكردي كله، إلى الدرجة التي يمكن أن يقال: تاريخ الإيزيديين هو أغنية، بل وتاريخ الكرد برمته محض أغنية. مدوناتهم كلها، أُخضعت لمحارق معروفة، أو رُميت في مياه دجلة والفرات، ترجمةً لفتاوى محاربة الجاهلية. هذا ما دفع بهؤلاء الكرد، الإيزيديين، إلى إتباع خصيصتين: حفظ نصوصهم الدينية في الصدور، عبر كهنة، ورجال دين، بمراتب محددة. ثمّ الأغنية التي كانت منبرهم، خلال قرون طويلة، وكانت تعكس أيامهم، أحلامهم، أفراحهم، أحزانهم، وتفاصيل العيش وحالات السلم والحرب على السواء.
نشأت في المجتمع الإيزيدي نخبتان، أولاهما: القوالون، وهم الذين يستظهرون الأناشيد والأقوال الدينية، ويحتلون مكانة مرموقة في مجتمعهم. صلتهم مع الأمير، أو البابا شيخ، كما صلتهم مع العامة، بدرجاتهم المصنفة، على نحو مباشر. النخبة الثانية هم المغنّون، وهؤلاء دائمو الحضور، يتمتعون بجماهيريتهم، ويعكسون الرؤى الدينية في أغانيهم. ينصرفون إلى ما هو راهن في الأغنية التي تتفاعل مع اللحظة، وتعكس أصداء العاطفة، والوجد لدى أبناء هذا المجتمع، في حالات هيامهم، وشغفهم بالحياة. تعمل الأغنية بوتيرة عالية، كي يكون المغنّي “وزير إعلام بيئته”، يرافع عنها في وجه خصومها، فتفرد له مكانته في صدور مجالس الأعيان، كما يرافق الفرسان إلى ساحات الوغى، يرصد بطولاتهم في الوقائع، يستحثهم على الذود عن حمى الأهلين.
يحفل التاريخ الإيزيدي بهؤلاء المغنين الذين كانت أغانيهم “ديوان الإيزيديين”. نجد في الأغنية سجلاً حافلاً بتفاصيل حياتهم، وقصص الحب الأثيرة، والحرب، كما هي الحال في ملحمة البطل الإيزيدي درويشي عبدي التي تكاد تختلط بالأسطورة، ليس من خلال علاقتها بالواقع، أو نأيها عنه، بل على صعيد البطولة الخارقة التي يحققها بطلها الإيزيدي.
يحتاج الباحث في تاريخ الأغنية الإيزيدية، إلى معجم خاص، من الأعمال التراثية، بل والمعاصرة، وهي بالمئات، استطاع بعضها أن يوثق، ولا سيما عبر إذاعة بغداد، في فترة الحكم الذاتي الأول في مطلع سبعينات القرن الماضي، التي كانت غنية من حيث أرشفة الأغاني والملاحم الكردية، ومن بينها أغاني الإيزيديين، ممن عملوا في إذاعة بغداد بعيد اتفاق الحكم الذاتي. فقد تم توثيق جزء منها، بيد أن جزءاً أكبر منها، نهبته الشعوب المتعايشة مع الكرد، لا سيما الأتراك، الذين طال نهبهم للكنوز الكردية، كما جغرافيتهم، وفي مطلعها: الأساطير، والأمثال، والحكم، والملاحم، كما ملحمة خجي وسيامند، مم وزين، فرهاد وشيرين، وغيرها من عشرات الملاحم الأخرى، مسرحها أرض كردستان.
يستطيع الباحث في الشأن الإيزيدي، أن يسأل: ترى لو لم يلجأ الإيزيديون إلى الموسيقى والغناء، ولم يعطوا مغنّيهم وقوّاليهم الأهمية الكبرى، فما الذي كان ليبقى منهم، وسط العزلة المفروضة عليهم، محاصَرين برهبة الجبال، وأسنة الرماح، ولجج الأضغان، وألسنة الأحقاد، وأنصال السيوف المتربصة بهم، باستمرار؟ لا شيء يخترق الصمت المطبق حولهم بإحكام، غير صدى أصواتهم، وحفيف أشجار جوزهم، وزيتونهم، وبلوطهم، وهسهسات مياه ينابيعهم، وزقزقات طيور مكانهم، بل ورنين خشخشات خلاخيل نسائهم، وألحان آلاتهم الموسيقية.
لم يكتف الإيزيدي بعقد حلقات الرقص سبعة أيام، بلياليها، المتتالية، في السراء، حين يكون هناك عرس ما، بل هو يفعل ذلك في الضراء، إذ يشيع الميت إلى مثواه الأخير، على إيقاع الموسيقى، منذ لحظة إخراجه من منزله، إلى لحظة مواراته الثرى، ويتواصل ذلك على مدى الأسبوع، أيضاً، بل وفي كل أربعاء، أو مناسبة، ما دام لهم فهمهم الخاص لديمومة الأرواح، وتجددها. ناهيك بحضور الموسيقى في أيام الأربعاء المقدسة، وأيام النوروز، والأعياد الربيعية كلها، وغير الربيعية أيضاً.
الأغنية والرقص سبقا الكتابة والرسم والشعر في حياة الإيزيدي. في أغنية شيخ ميرزا آقوسي نستخلص روح البطولة عند الكردي، وأصالة الفارس الإيزيدي وثقته بقدراته التي تتجاوز حدود الاسطورة.
تعتبر الأغنية رئة الإيزيدي، عبرها يتنفس هواءه الأكثر مقدرة على مدّه بعناصر الديمومة والحياة. حافظت الأغنية على لغته، كما عكست تقاليده، وطريقة تفكيره، وتضاريس روحه، وشموخه، وعدم استكانته أمام الظلم، أياً كان مصدره. بل إنها مرآة حفظت علاقته بمنظومته الأخلاقية، والقيمية، فاستطاع عبرها أن يحافظ حتى على وجوده، وقد ساعده على ذلك اعتبار الجبل عنواناً رئيسياً له، حتى وإن كان له عنوان سهلي، مواز، واحتياطي، يلجأ إليه طلباً للكلأ أو الماء، من أجل ماشيته. لذا بقيت الثقافة واللغة الكردية صامدتين أمام عوامل التذويب والمحو.

ملحمة درويشي عبدي نموذجاً
ترتقي ملحمة درويشي عبدي، إلى مستوى الملاحم العالمية الكبرى حقاً. تروى بأشكال عدة، وإن كانت روايتها الأكثر انتشاراً هي تلك التي غنّاها باقي خضر. تطرح قضايا عدة، من بينها كيف أن عامل الدين يفرّق بين الحبيبين الكرديين درويش الإيزيدي، وعدلة الكردية المسلمة، حيث الأول هو ابن ملحم الشرقي، والثانية ابنة باشا العشيرة المللية، الشهيرة. تدور حوادثها في كردستان، حيث تلتقي نظرات الفارس بنظرات الأميرة الحسناء، فينصعقان بشرارة الحب الإلهي، وتولد بينهما قصة حب نادرة. بيد أن حاجز الدين لا يمكن تجاوزه، فيقف حائلاً بينهما.
كما في قصة “مم وزين” الكردية للشاعر أحمدي خاني، التي يفرّق فيها بكو بين العاشقين، فإن كثيرين في ملحمة درويشي عبدي يتقمصون شخصية بكو، ويؤلبون الباشا على درويش، ليخطط لمقتله أكثر من مرة، بعدما باح على مسامع الشهود بحبّه لابنته الأميرة عدلة.
تدور حوادث ملحمة درويشي عبدي إذاً في كردستان، حيث لجأ والد درويش وأسرته إلى مرابع تمر باشا، زعيم عشائر الملليين، ليحتموا بها. يقع الفتى في حب عدلة ابنة الباشا، بعد أن تلتقي نظراتهما قرب النبع، فتولد بينهما قصة حب فريدة، لا يمكن أن تتكلل بالزواج، بسبب حاجز الدين. درويش من الإيزيديين الشرقيين، في حين أن الأميرة المللية كردية مسلمة. عندما يبوح الفتى درويش بحبه لهذه الغادة الكردية الحسناء، يهرع أحد الحساد إلى والدها، لينمّ عليه، ويوغر صدره، فيخطط لقتله. عندما يتناهى إلى والد درويش ما يضمره الباشا لابنه، يقرر الابتعاد عن مضارب الملليين، ليفوّت على الباشا فرصة المكيدة، غير أنه لا يفلح في ذلك. يعلن الباشا أنه يهب ابنته لأي فتى يحتسي فنجان القهوة، تحت خيمته، ويقبل بمواجهة أعدائه من الترك والجيس، فيتنطع درويش لأداء هذه المهمة، وتفشل محاولات والده وشقيقه، وكل من حوله، بل والأميرة عدلة ذاتها، في ثنيه عن هذه المهمة التي لا تعني إلا أمراً واحداً، هو التخلص منه. درويش يعرف ذلك في قرارته، لكنه لا يتراجع، بل يخرج مع أحد عشر فتى من بينهم شقيقه سعدون، ذو الأربعة عشر عاماً، لمواجهة جيش عرمرم، يقارب الأربعة آلاف شخص، من المغيرين على الملليين، فيدفع حياته، وحياة شقيقه سعدون في تلك الواقعة التي لا ينجو منها غير فارس واحد.
يؤكد درويش لأبيه ملحم أن الحبّ قاسٍ وأليم، ويذكّره كيف أنه كان يحبّ شقيقة الباشا نفسها. بل يذكّر أباه بأنه بعد سماعه بموت حبيبته تلك، قهراً، لأنها زوِّجت بأحدهم في الرها بعد ثلاثة أيام فقط من زفافها إليه، اصطحب معه ولديه، وأمرهما بمساعدته في نبش قبرها، ثمّ طلب منهما الابتعاد عن القبر لأن جثتها كانت أنتنت فيه، لينزل بمفرده ويناجيها، طالباً منها أن تنهض وتلحق به، من دون جدوى.
يرضخ الوالد لرغبة ابنه ويعدّ العدة للذهاب معه إلى مضارب الباشا. الحبيبة نفسها تعرف أن والدها دبّر مكيدة ضد حبيبها، فتحاول بكل ما لديها من حنكة ودهاء أن تتدخل لثني أبيها، بل وعاشقها. يقدم درويش على ارتشاف فنجان القهوة، عارفاً أنها قهوة موت حلمه، بل قهوة موته.
ثمة حوادث ثانوية كثيرة، تسير في موازاة حدثها الرئيسي، وهي جميعها تنبئ بالمصير المؤكد لدرويش ومن معه، ومنهم شقيقه. بيد أنه لا يتراجع، ولا يقتنع البتة بكل المقترحات التي تعرض عليه، للتراجع عن المواجهة غير المتكافئة. تنهال عليه ضربات الرماح والسيوف، فيخرّ صريعاً في ساحة المعركة. يطلب من صديقه قائد الجيش المعادي، أن ينظف وجهه، ويلبسه عباءته، لئلا تراه حبيبته على تلك الحال التي يرثى لها. وعندما تصل تضع رأسه على ركبتيها، مجهشة في العويل، بينما هو يغازلها، إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
الاختزال السردي لهذه الملحمة، يفقدها الكثير من جمالياتها، وملامحها المهمة التي صاغها مغنيها. فهي استطاعت أن ترصد عبر التقاء الرواية بالأغنية، إحدى قصص الحب الأكثر شهرة في التراث الكردي الإيزيدي، كما أنها تعكس طبيعة الحياة، والعلاقات السائدة، في العهد العثماني، قبل أن يتم اقتسام كردستان، وتبين سيكولوجيا الفارس الكردي، القهرمان الذي لا يقهر، حتى لو كان في ذلك تجرع قهوة موته!

طقوس إيزيدية
يحتل الماء مكانة مقدسة لدى الإيزيديين. كيف لا، وهو أداة الحياة والخصب والنقاء والطهارة. ولعل سرَّ تقديس كانيا سبي يكمن في كونه البديل من زمزم. وبغض النظر عن الدخول في الإشكال التاريخي، حول أسبقية أحدهما على الآخر، بل وبغض النظر عن أن لالش كله، محج الإيزيديين، بديل من الكعبة أم لا، ثمة ما هو مشترك بين طقوس الحج في الديانتين الإسلامية والإيزيدية.
والماء هو روح الاخضرار، روح الربيع، روح شقائق النعمان- الزهر الأثير لديه – روح شجرة الزيتون المقدسة التي توقد بزيته الصافي قناديل هذا المعبد، حيث لا يسمح لأحد غير القوالين، وأسرهم، بجني الزيتون، ويستخرجون عصارته المقدسة. والماء هو مطهر الأرواح، وتجلٍّ للروح الإلهية، ما دام أنه وراء النماء، وديمومة الكون والكائن، بل أن هطوله من السماء، وهي فضاء روح الخالق، يروي التراب الظامئ، وبه يشتل السندس في الأمداء، تتسامق الأشجار، كي تكون ظلاً وارفاً، مفردة فردوسية تمنح الفاكهة. بالماء ذاته، تولد البذرة، وتنمو السنبلة، وتثمر، حبات كثيرة، يصنع منها الرغيف الذي يحتل مكانته المرموقة في ميثولوجيا الإيزيديين.
لن يجد دارس الديانة الإيزيدية، ما يسجل على الإيزيديين، لولا ما أدخل إلى فضاء هذه الديانة زوراً، نتيجة عاملين اثنين، أحدهما ناتج من ردود فعلهم تجاه الأغيار، ممن حاولوا اسئصال جذورهم وديانتهم على حد سواء، وثانيهما نتيجة تلوّن هذه الديانة، في مراحل متفاوتة بآثار بعض العقائد والديانات. اضطر الإيزيدي إلى أن يخبئ نصوصه العقدية عمن ناصبوه العداء، واعتمد على ثقافة الصدر التي تناقلها القوالون، جيلاً بعد آخر، ما أدى بها إلى أن تخسر الكثير من ملامحها، بعدما أضيفت إليها عناصر غريبة، لا تمت بأي صلة إلى جوهرها.
والإيزيديون مولعون باللون الأبيض، الذي له دلالاته الهائلة. فهو رمز النقاء، والبقاء، والصفاء، والشفافية؛ لون إزار الإيزيدي المفضل، بل اللون الذي يطلي به منزله، ومعبده، وأضرحة شيوخه ومراقدهم. وهو في الحقيقة لون بياض قلبه، وروحه، كما أنه محور في العملية الجمالية. ثمّ إن الماء المقدس لديه، أبيض، صاف، هو الآخر.
يجد الباحث الممعن في مفردات ثقافة الإيزيديين وحضارتهم، أنهم تفاعلوا مع ما هو محسوس من حولهم، ليكون ذلك معراجاً غير مسمى لهم، صوب منابع الجمال الأولى التي ترتبط بالخالق الأسمى. في معرفة هذا الأمر ما ينسف كل النصوص التكفيرية التي أضرمت تاريخاً دامياً بحق هؤلاء المسالمين، الذين يعدّون إحدى العلامات الفارقة، الأصيلة، في الفسيفساء الشرقية.
* * *
يا أيّها الماء
يا ماء/ أأنت بلا عشق وحبّ؟/ تنثر أمواجك/ تنشرها في كل الإتجاهات بلا توقف/ وبلا سكينة/ لأيّ عشق ما زلت تهدر؟/ ولأيّ زمن قادم سوف تستمر؟/ قل لي بمن تولّهت/ لأعرف ما هي قصّتك/ لأعرف سبب ثورتك الدائمة/ قليلة وصغيرة كانت أم كبيرة/ لأعرف معنى هدير أمواجك/ ربما أعرف لمن كل هذه الطاعة ليلا ونهارا/ لا تنام/ لعشق من تنحني وتسهر/ لا يعتريك التعب/ ولا يغزوك النعاس/ في أحلك الليالي/ بأمر مَن كل هذا الحراك/ لم تذهب أسئلة الفقهاء سدى/ تبحث عن معناك/ أيها الماء/ فقد جاء الجواب في الفرقان/ أنت أيها الماء حملت عرش الله/ فقبل وجود السماء/ كنت أنا/ جاوبني الماء/ حيث استوى الإله الأكبر الخالد/ على عرشه فوق صفحتي أنا الماء” (غناء حسين شريفي، ترجمة هجار شكاكي)

السابق
القرضاوي رئيسا لاتحاد العلماء واستبعاد النائب الايراني السابق
التالي
نجل مدير عام جمعية التعليم الديني «شهيدا» في سوريا