علْمَنَة المجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة

قد يكون أهمّ ما أنتجه ما يُسمَّى “الربيع العربي” هو أنَّه أعاد طرح إشكاليَّات “العالم العربي” والمجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة على طاولة البحث الأكاديمي الجدّي.

أهمّ هذه الإشكاليَّات تتمحور حول السؤال التالي: هل إنّ مشكلة الديانة الإسلاميَّة مع قِيَم الحداثة والعولمة والعلمانيَّة والمواطنيَّة والديموقراطيَّة ترجع الى أنّ الإسلام معادٍ بطبيعته وبجوهره لهذه القيم، أم أنَّ هذه المشكلة لها أسباب تاريخيَّة عميقة؟

هناك رأي أوَّل – وقد يكون أهمّ من مثّله إرنست رينان – يعلن جهارًا أنّ الإسلام غير قادر لأسباب بنيويَّة على تقبُّل كلّ جديد أكان متأتياً من العِلم أو من الفلسفة. فرينان لم يتردَّد أبدًا في القول: “إنّ الإسلام يمثّل الوحدة المبهمة ما بين الروحي والزمني. إنَّه حُكم العقيدة. إنَّه السلسلة الأثقل التي حملتها الإنسانيَّة يومًا”.

أمّا الرأي الثاني، فهو يعتبر أنَّ المشكلة التي تعتري علاقة الإسلام بالحداثة وبالعلمانيَّة وبالعِلم وبالفلسفة لا علاقة بها بجوهر الإسلام ولا بنصوصه الدينيَّة البنيويَّة بل تعود لأسباب تاريخيَّة. قد يكون الكتاب الذي صدر أخيرًا عن الكوليج برناردين في باريس لكاتبه السفير والجامعي جاك هوتسينغر – والذي يعرض فيه لخُلاصات المحاضرات التي نُظِّمت في المعهد عن الثورات العربيَّة وعَلْمَنَة المجتمعات الناطقة العربيَّة ودخولها الحداثة – من أبرز المحاولات في هذا الإطار.

بحسب هذا الكتاب، فإنَّ الديانة الإسلاميَّة كانت في بدايتها ذات بعد ديني بحت خاصَّة خلال أعوام تواجد الرسول في مكَّة. وتقليد الجَمْع بين الديني والسياسي لا يجد تبريره في النص الديني، بحسب هذه المحاضرات، بل في تاريخ تجربة حُكم مُحمَّد للمدينة.

لا ضير هنا من التذكير أنَّ الرسول لم يُنشئ حُكمًا وراثيًّا ولا مَلَكيَّة. هذا الواقع أدّى إلى اهتزاز دائم في ركائز الحكم الإسلامي منذ بدايات الإسلام. ويرى محاضرو الكوليج برناردين بأنّ غياب الآلية الواضحة في تحديد كيفيَّة الوصول إلى الحُكم في الإسلام وعدم استطاعة الحاكم المسلم تبرير تبوّئه الحكم وتغطية حكمه بشرعيَّة ما، شكَّلت عوامل ساعدت في لجوء هؤلاء الحكّام للعامل الديني كغطاء شرعي لسلطتهم. ولعلّ ما جرى من اختيار لعثمان بن عفَّان خليفةً واندلاع الخلاف بين المهاجرين وآل سفيان وما استتبعه من صراع بين علي ومعاوية وظهور الخوارج والتقاتل بين المسلمين على أحقيَّة الحُكم الذي وُصِف بـ”الفتنة الكبرى”، كلُّها عوامل دفعت لاستيلاد “إسلام سياسي” من رحم “الإسلام الديني”.

هذا الأمر بالذات هو الذي دفع بالعباسيِّين في ما بعد لأنْ يعمدوا إلى بَلْوَرة ما يسمِّيه إياد بن عاشور بـ”الأرثوذكسيَّة السنيَّة” بحيث تكون سورًا دينيًّا وسياسيًّا وتشريعيًّا يحمي حُكمهم الذي يَستمدُّ شرعيَّته من الديانة الإسلاميَّة، كما حدَّدوها هم، وبحيث يؤمِّنون لحكمهم الإستقرار والديمومة في وجه الفرق الإسلاميَّة الأخرى المتمرِّدة على الحُكم المركزي والتي باتت، بحسبِهم، فِرَقًا رافضة أو خارجة عن الإيمان المستقيم بالمعنى الديني والسياسي.

محمد أركون يرى في هذه القرون الأولى للإسلام السبب الأساس في تجميده في صيغ متحجِّرة غير قادرة على مجاراة التطوُّر الناتج عن الحداثة والعَوْلمة. ففي هذه المرحلة الممتدَّة ما بين القرنين الثامن والثالث عشر (م) تمَّت بَلْوَرة المدارس الفقهيَّة الأربع التي تُبدِّي النقل على العقل في حين ضُرب التيَّار المعتزلي بما شكَّله هذا التيَّار من فرصة أولى لبَلْوَرَة لاهوت الحريَّة والعقل في الإسلام. في هذه المرحلة بالذات تمَّ إغلاق باب الاجتهاد أيضًا ما أدى لإيقاف تطوُّر الفكر.

وعليه ظهر ما يُعرف حاليًّا بالشريعة التي باتت أساسًا متينًا للأمًّة الإسلاميَّة. وقد تحوَّلت هذه “الأرثوذكسيَّة السنيَّة” مع الوقت إلى شيء من الإيمان الديني الجماهيري الذي يجعل منها أساسًا حتَّى في العلاقات الاجتماعيَّة والعادات والتقاليد، وهي التي يُسمِّيها إياد بن عاشور بـ”أرثوذكسيَّة الجماهير” (orthodoxie de masse).

غير أنَّ القرن العشرين يبدو أنَّه حمل تغيُّرًا خطيرًا في هذا الصراع بين التجديد والتقليد بحسب ما يلاحظ محاضرو الكوليج برناردين. فللمرَّة الأولى في تاريخه يواجه الإسلام الحداثة. وتبدو هذه المواجهة شاملة وغير قابلة لعكس نتائجها كما كان يحصل في المرَّات السابقة. فمقابل كل تيَّارات الإسلام السياسي الصاعدة في المجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة، هناك ظاهرة باطنة تَحدُث بشكل صامت وناعم ومتراكم وغير مباشر؛ إنًّها ظاهرة تَعَلْمُن هذه المجتمعات من الأسفل في اتَّجاه الأعلى دون أنْ يكون الأمر معلنًا ولا صاخبًا.

إنَّ الوجه الأهمّ من مسألة العَلْمَنة هذه هو التطوُّر الذي حصل حول مفهوم الدين عند الأفراد. إذ من الواضح تزايد عدد الأفراد الذين باتوا يعتبرون التديُّن مسألة شخصيَّة خاصَّة لا علاقة للمجتمع فيها، الأمر الذي يُشكِّل ضربة قويَّة لهذا التديُّن الجماهيري التقليدي الذي شكَّل العائق الأوَّل أمام كلِّ محاولات الإصلاح في الإسلام. إذًا هناك “عَلْمَنة من تَحْت”داخل المجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة دون أنْ يكون الأمر علمانيَّة شاملة تفرضها الدولة من فوق؛ هذه العَلْمَنة التي تجد ترجمتها في كلمة sécularisation أكثر منها في كلمة laïcité. ويبدو أنَّ تقدُّم هذا الشكل من العلمانيَّة غير قابل للإنعكاس. وبدل أنْ تكون هذه العلمانيَّة مُلحدة متصارعة مع الدين، فإنَّها تبدو متصالحة مع الدين مُعترفة به، وهي التي أطلق عليها محاضرو الكوليج la laïcité de reconnaissance. إنّ هذه “العلمانيَّة” ستكون نظامًا يُميِّز بين الديني والسياسي مع إعطاء الدين دائمًا مساحته في الدائرة العامَّة. ذلك أنَّ جماهير المجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة لا تزال متعلِّقة، إلى حدّ ما، ببعض أشكال التديُّن. وقد يكون هذا النظام شيئًا من “علمانيَّة من عندنا” بحسب تعبير الفيلسوف رينه حبشي.

من هنا، فإن ظاهرة “الربيع العربي”يجب أنْ تُقرأ وتُدرس ضمن مسار دخول المجتمعات الناطقة العربيَّة وذات الغالبيَّة المسلمة في الحداثة منذ نصف قرن تقريبًا وتحديدًا منذ إعلان ثورة المعرفة في العالم. وهذا الأمر بالذات هو ما فتح أُفُق الثورة السياسيَّة. كما يجب الإنتباه إلى حقيقة أنَّ ما يُسمَّى “الربيع العربي” ليس إلا الموجة الأولى من مسار طويل جدًّا يجب أنْ يُتابع ويُدرس في الزمن الطويل لخروج هذه المجتمعات من القالب الذي وُضِعَت فيه إبَّان البدايات الأولى للإسلام؛ موجة ستليها موجات أخرى كوصول “الشتاء الإسلامي”من خلال فوز أحزاب الإسلام السياسي في الانتخابات ومن ثم سقوطها وفورة الجماعات التكفيريَّة والجهاديَّة.

السابق
مواجهة الارهاب في المركز الثقافي العراقي
التالي
سلمى حايك تقاضي إيمي سمير غانم