داعش: من يموّل؟ ومن يدعم؟ ومن يصمت؟

يكاد الحديث عن «داعش» بعد اتضاح جرائمها في العراق بعد سوريا، وتناوله من قبل الساسة والنخبة العربية، كظاهرة دخيلة فرضت ذاتها في الواقع العربي، كالولوج في عالم الغيبيات الذي تحمله «داعش» ذاتها، و«تبشر» به، كل من يبقى في المناطق الخاضعة لسلطتها والآخذة بالتوسع.

وأكثر التفسيرات بروزاً، تلك التي تحاول تفسير نمو «الظاهرة الداعشية» وممارساتها باعتبارها نتاجاً لأنظمة الحكم وأنماط السلوك السياسي في الدول التي ظهرت فيها. أو بكلمات أبسط القول إنها تأتي على خلفية «أنظمة الاستبداد والظلم في العراق وسوريّة» وبسبب «فشل الدّولة الوطنيّة في القضايا الرئيسيّة المتعلقة بالفقر والتنمية والمواطنة وحقوق المواطن، وعجزها عن إدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، الوطنيّة والقوميّة والدينيّة والإثنيّة، وفشلها في عملية بناء الأمة».
والوصول الى خلاصة تشابه «الحقائق العلمية»، في استنتاجها «أن داعش تعيش في الفراغ الذي خلفه فشل الدولة»، وان هذه الظاهرة «لم تنشأ في ظل نظام ديموقراطي وفي ظل ثورة ديموقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال وعنف النظام ضد الثورات». وكثيراً ما يأتي هذا التحليل في سياق الموقف المقر سلفاً لنقد تلك الأنظمة، أو الدفاع عن «ربيع» تلك الدول، خاصة بما يتعلق بسوريا والعراق. فيكون التحليل «العلمي» والاستنتاج الصادر عنه معداً سلفا حتى قبل الولوج بتفاصيل مركباته.
الخطر الحقيقي والتحدي الأخلاقي القومي وحتى الديني، الذي تشكله ممارسات «داعش»، يجعلنا نأمل أن يترفع النقاش عن تلك المماحكة، ويرتقي لطرح التساؤلات التي قد تؤدي لنتائج تساهم ولو بالنزر القليل بالكشف عن هذه المنظمة التي صارت ظاهرة بكل المقاييس، بعدما فرضت «أجندتها» على جزء من منطقتنا، ورسخت عن شرقنا صورة نمطية تتسم بالهمجية والعنف والتطرف من خلال صور القتل وقطع الرؤوس، تهجير المسيحيين والايزيديين وغيرهم، وفرض الإسلام بالقوة، قوة السيف، بصورة لها اعتبارها (لماذا يذبح الناس أمام الكاميرات، وبالسيف! وداعش تملك أسلحة وذخائر متطورة تفوق ما تملكه بعض الجيوش النظامية في المنطقة)… وكيف ومتى يعلو «نجم» هذا التنظيم صاحب الفكر الإقصائي الذي يحتكر الحقيقة المطلقة، ويبرر أفعاله الوحشية بوصايا الرب، ويعتبر دربه الطريق الوحيدة للتواصل مع السماء ورب السماء؟
أول هذه الأسئلة: إذا كانت «داعش» قد ظهرت على خلفية «فشل الدولة» أو بما «يشبه الرد على هذا الفشل من قبل مجموعات مهمشة سياسيا واقتصاديا»، فالسؤال الذي يتبادر للذهن: لماذا في العراق وسوريا بالذات؟.. لماذا لم تظهر هذه المجموعات في الدول الأكثر فشلاً وفساداً وقمعاً كدول الخليج العربي مثلاً، أو في المملكات والإمارات التي تبني حكمها الاستبدادي على أنماط متخلفة من التوريث والحكم الملكي بعيداً عن مفهوم المواطنة وقيم المساواة والعدالة؟
ثانياً: وبالارتباط بالأفق ذاته، إذا كان الفكر السلفي الجهادي قد نما ونشأ في الجزيرة العربية، بدعم من الدولة الرسمية أحيانا، وبمحاربتها أحيانا أخرى (وفق المصلحة الآنية) فلماذا لا تعمل في بلدانها وأوطانها الأصلية، وتُرحّلُ بقدرة قادر إلى سوريا والعراق؟ ولماذا ظهرت قبل ذلك في أفغانستان والصومال؟ أليس من الأولى لها والأكثر سهولة أن تقيم بين أهلها وحاضنتها الطبيعية (الفكرية، الاجتماعية، الطائفية واللوجستية). ألا يحق لنا أن نسأل كيف يُتخذ القرار، ومن يقرر مكان ظهورها وتوقيته؟ أو كيف تتنقل هذه الجيوش البشرية ومئات الألوف من «المقاتلين» عبر مطارات العالم وحدود الدول من دون أن تكشفها أجهزة المخابرات الغربية والعربية، ومن دون أن يعيق تحركها أحد؟ وهل من المعقول أنها تتنقل على الجمال والخيول؟ أم أن هناك طائرات تنقلها عبر المسافة الواقعة بين كابول والموصل وحلب، ودول توفر لها العتاد العسكري والسيارات والأسلحة الضامنة لحكمها؟
وهل من غير المنطق أن نتساءل عن الدوافع التي تحمل الشيشاني والأفغاني ليموت في جبال كردستان العراق وهو يلاحق الأطفال والشيوخ والنساء الفارين من قرى الايزيدية والتركمان والمسيحيين وغيرها من القوميات والأقليات الدينية المسالمة، تلك الأقليات التي لم نسمع عنها (تقريباً) في ظل «أنظمة القمع والتهميش»؟
أليس من المجدي أن نتفكر بقضية التمويل، أموال الإفساد السياسي (الخليجية الأصل غالباً)، وفي من يقرر استعمالها وتوجهها لذبح الناس الآمنة وتهجير القرى؟ أليس هناك من يسأل عن صمت «أهل السنة» عن المجازر المرتكبة من قبل هذه العصابات المتوحشة تحت «راية لا اله إلا الله»، كما قالت النائبة الايزيدية في البرلمان العراقي، حيث يذبح الأبرياء باسم الإسلام والمسلمين؟ أليس هناك من يظن بأنه قد آن الأوان لنسأل عن المغزى الحقيقي لتهجير المسيحيين وتدمير كنائسهم في الموصل، في الأسبوع ذاته الذي فتحت الكنائس أبوابها في غزة أمام المسلمين، لا لإيوائهم وعائلاتهم المشردة فحسب، بل لرفع الأذان والصلاة فيها؟
وهل هناك من لا يرى كيف يتم دعم هذه العصابات ذاتها بالسلاح ومدّها بالمال والغطاء السياسي لتمارس أعمالها الوحشية في سوريا، من قبل أميركا وحلفائها في الخليج وتركيا وأوروبا، فيما لا نسمع سوى بعض التصريحات الخجولة المنددة بعدوانها على المسيحيين والأقليات في العراق؟
مَن مِن المتابعين لا يلاحظ تغييب الموضوع الفلسطيني عن أجندة «داعش» وخطابها، أليست القدس والأقصى (أولى القبلتين) إسلاميةً وفق شريعتهم «الجهادية»؟ وهل فعلا هي مصادفة أم خلل في أن تغيب عن أولوياتهم وبرامجهم وممارساتهم الجهادية المتوحشة، التي وصلت حد التمثيل بالجثث، وتعليق الرؤوس على الأعمدة في الشوارع، ذبح الأطفال وخطف النساء وبيعهنّ «سبايا» محللة للمجاهدين القادمين من خلف التاريخ والحضارة، وما هو «البرنامج» أو «المشروع» الذي تحمله أعمالهم الوحشية التي عجزت عنها كل «الأنظمة الاستبدادية والحقبات المظلمة في الحاضر والواقع الإنساني»؟
هناك العشرات من الأسئلة التي من الممكن طرحها لنتوصل من خلالها الى نتيجة واضحة المعالم في تصرفات «داعش» الناتجة من أصولها الفكرية، وجذور نشأتها التي لم تبدأ في الموصل ولن تنتهي بها. «داعش» هي جيش لا دولة ولا حدود له… جيش قام على الفكر الوهابي الجهادي التكفيري، الذي نشأ وترعرع في الخليج العربي – السعودية ومحيطها. والسعودية خلقت هذا الوحش خدمة لبرامجها السياسية، لا الدينية، حيث يشكل النظام السعودي سند هذا التنظيم الأساسي في التمويل والتسليح، وقد صار واضحاً للجميع أن هذا الجيش يُنقل بطائرات مدنية وعسكرية إلى مناطق عدة في العالم، بما يتلاءم ويتطابق كلياً مع «خريطة الصراعات» التي تخدم مصالح أميركا وحلفائها. ويساهم في تأجيج الصراعات العرقية والدينية في العالم، والعالم العربي خصوصاً، وذلك لخلق القلاقل وتغييب الأمن القومي والفردي بصورة تضمن تدمير وحدة الدولة العربية الواحدة تلو الأخرى، بعد أن تم تمزيق فكرة الوحدة الإقليمية العربية كفكرة، وتشويه الخطاب العربي القومي، إضافة للإسلامي المعتدل، وتدمير آثار الحضارة الإنسانية التي نمت في هذا العالم العربي (من خلال التدمير الفعلي للآثار وأماكن العبادة ونبش القبور.. علاوة على التدمير الحاصل لصورة العربي والمسلم في الإعلام العالمي).
ومن المؤكد أن «داعش» لا تمثل حركة سياسية «إصلاحية أو تنويرية» أو «ثورة على الاستبداد والتهميش»، لأنها بجوهرها تخالف هذه القواعد، في شرعها وحكمها، فهي هدّامة بطبعها لأي عقد اجتماعي أو نظام سياسي، إلا ما يخضع لجبروتها وظلمها، تماماً كما هي هدامة بفعلها وممارساتها لقيم الحضارة والتسامح والإنسانية، تماماً كما تقوم بهدم المساجد والكنائس وأماكن العبادة (سنيةَ كانت أو شيعية، مسيحية أو غيرها!!)، وهي لا تمثل الإسلام ولا المسلمين في شيء رغم شعاراتها ورموزها وأعلامها التي تلطخت بدم الأبرياء من المسلمين والمسيحيين والإيزيديين والشيعة وغيرهم، من جبال أفغانستان حتى جبل سنجار في شمال العراق مروراً بمحافظات الرقة وحلب في سوريا.
إن الصمت العالمي أمام هول المجازر المرتكبة من قبل «داعش» ضد الأقليات المسالمة في سوريا والعراق، لا يساويه إلا الصمت المثيل له، على مجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين، ولا يؤكد إلا على التماثل في مُخرجات هذا الأفق المظلم الذي تدخله المنطقة العربية بين «داعش» والدول التي تضيف لتآمرها، المتمثل بإمداد الأسلحة والدعم اللوجستي، تآمراً آخرَ يتمثل بالسكوت والصمت وعدم التحرك لحماية الأبرياء، ويؤكد زيف الشعارات حول «عالمية الحقوق» و«القرية العالمية». وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التحرك المحدود الذي بدأنا نراه في الأسبوع الأخير، من الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، لم يأت لحماية المسيحيين أو منع تهجير غيرهم، بل جاء بعدما رسّخ هذا الوحش قواعده، وقام بما أوكل له على صعيد المنطقة بنجاح، حتى شعر بالثقة والقوة – المادية والعسكرية الكافية ليتجاوز حدود المساحة المرسومة له أصلاً، ويهدد المصالح الأميركية في شمال العراق: دولة الأكراد العتيدة (وفق المخطط الأميركي) وموارد الطاقة والنفط في المنطقة الكردية.
لقد أثبت هذا الفكر أنه لا يتوقف عند حدود جغرافية أو سياسية، ولا تحد من وحشيته قيم أخلاقية ولا ديانة أو إيمان (الحديث عن إعادة كتابة القرآن وإلغاء بعض آياته مثال لذلك). هذا الموقف الواضح والصوت الرافض لـ«داعش» وأشباهها يستند الى حضارة منطقتنا وتاريخها وأرضها، ثقافتها وناسها التي سمحت بالتعددية الفكرية والدينية طوال عصور طويلة، وأنتجت حضارة قامت على أسسها ومنتجاتها حضارات إنسانية عديدة.
التحدي المطروح كبير والثمن لتقاعسنا سيكون باهظاً، على فلسطين قبل العراق وسوريا، وعلى المجتمع الإنساني بمجمله مهما كانت مصالحه في المنطقة، فالخلافات المذهبية والمعارك الدينية لا تصب إلا في خدمة «أمن الدولة اليهودية».

 

السابق
حماس تتوعد إسرائيل بعد اغتيال 3 من قيادييها الجيش الإسرائيلي
التالي
اقتراح عون الى الواجهة وتحول في قضية العسكريين اليوم