بليدا.. تخطُّ بزهر اللوز فستان عرسها

حين تستيقظ الشمس على ربوع الوطن، فهي تلامس سفوحها شروقاً، وترشف قهوتها مع الفلاحين في كروم “أبو عيد”، و”العريض”، وتطبع على جبينها أولى قبلات الصباح…! بليدا، سفوحٌ تلامس السُّحبَ سموّاً، وتمتطي صهوةَ الدهر تجذّراً، ورواسي جبالٍ تتعاقبُ عليها الأمجاد، وأوديةٌ يرسم لوحتها انتصارٌ تلوَ انتصار، أنشودةً راسخةً ثبوت الأرض، وثبات الصخور والجبال.. أما الغزاة، فسرابُ رملٍ تلاشى، وانتهى.. بليدا تخطُّ بزهر اللوز فستان عرسها…

يعود أصل اسمها في الكشكول البحراني إلى: “بليدا بجوار قَدَس وفيها البئر الذي سقى منه موسى غنم شعيب”. تمتاز بموقعها الساحر بين السهول والأودية والتلال، حيث تنتشر عند مدخلها أشجار السرو على جانبي الطريق. تحدّها شمالاً بلدتا ميس الجبل ومحيبيب، غرباًعيناثا، جنوباً عيترون والمالكية وشرقاً قدس والنبي يوشع (من القرى السبع تحت الاحتلال الإسرائيلي). وهي آخر بلدة في قضاء مرجعيون ومنها يبدأ قضاء بنت جبيل، رغم قرب المسافة بينهما، والسبب في ذلك يعود لأهداف انتخابية أيام الإقطاع التي عانت منه المنطقة في السابق. قديمة العهد، يعود تاريخها إلى الحقبة الرومانية، لكثرة ما فيها من آثار ومدافن وأواني وحاجيات من زجاج وفخار، ومقتنيات وقلائد، من صلبان وغيرها، تعود لشعوب من أدوار تاريخية مختلفة منذ ما قبل الإسلام بقرون.

معالم تاريخية
وتشتهر بمعالم أثرية كثيرة أشهرها المسجد التاريخي وعمره أكثر من ألف عام، وهوعبارة عن قبوٍ قائمٍ على الجدران، رُمِّمَ في أوائل القرن العشرين، وبئر الماء المسمّى ببئر شعيب، يعتقد الناس أنه بئر مدين الذي سقى منه النبي موسى (ع)غنم شعيب، عمقه متوسط يمتلئ شتاءً، ويقل ماؤه صيفاً لكثرة وارديه، كانت تستسقي منه فضلاً عن بليدا، بلدات عيترون، محيبيب، ميس الجبل وأحياناً عيناتا .وبين أطلال القرية والبئر “قرية شعيب”، ما يُظهر الأهمية التاريخية والأثرية لذاك المسجد، لا سيما موقعه على هضبة مطلة على سهل الحولة، الممر البرّي الوحيد والقديم بين بلاد الشام وفلسطين. إحتضن دياناتٍ مختلفة بعد أن كان معبداً وثنياً، تحوّل لمعبدٍ مسيحيٍّ ومع بداية الفتح الإسلامي صار مسجداً، فكان المسجد الأول في جبل عامل .
إحتله الصليبيون بعد ذلك وجعلوه حصناً وثكنة لجندهم، لكنه ما لبث أن عاد مسجداً للمسلمين ثانية بعد تحرير بلاد الشام من الصليبيين. تشهد تفاصيله المعمارية الشديدة الغنى والتنوع، على الحقبات التاريخية التي مرّت عليه.
فضلاً عن آثار قديمة جداً، تنتشر في ما بين صخور بليدا وخفايا أوديتها، ومغاور وكهوف ومدافن وآبار قديمة جداً، والكثير من الفخاريات والزجاج القديم وبعض المعادن والعملات المعدنية التي يرجع تاريخها إلى العهود الكنعانية والرومانية والبيزنطية والعربية. أما الساحة العامة فيها فلها حكاياتها حيث سميت بالبرلمان، لكثرة اللقاءات التي كانت تتم فيها، ومنها تنتشر الأخبار، ويتم التداول بشؤون الضيعة وهمومها وحكايا من هنا وهناك تحفر في الذاكرة تاريخاً يذكر .

تحوُّل
وبليدا كغيرها من قرى جبل عامل ثارت في وجه الظلم والاحتلال منذ العثمانيين والإنكليز والفرنسيين، قاومت ودافعت عن هذا الجبل وعن عزة أهله وكرامتهم وأرضهم، فهم من نشأوا على حدود فلسطين التي ارتبطوا فيها بعلاقات تجارية، عائلية ودينية تمثلت بعشقهم للأقصى الشريف. ما أثار عنفوانهم في العام 1947، بعد قيام الصهاينة بالتحرش بالشعب الفلسطيني حيث نال أهالي بليدا نصيباً من ذلك، ما دفع بهم إلى المواجهة بالأسلحة المتوفرة لديهم، من بنادق صيد وبعض الأسلحة البسيطة، إلاّ أنهم اضطروا للنزوح إلى القرى المجاورة لحماية عيالهم، بعد أن هاجم الصهاينة البلدة في العام 1948. لكنها صمدت في عدوان تموز 2006 بسواعد أبنائها المقاومين في وجه العدوان الاثم الذي ألحق اضراراُ جسيمة في الممتلكات والمزروعات والمواشي، فضلاً عن أصابة أكثر من ثلاثمائة وعشرين منزلاً بأضرار كلية وجزئية، مقدّمةً العديد من أبنائها شهداءَ فداء الوطن. اعتمدت بليدا سابقاً على تنوع الأشجار المثمرة فيها كمصدر لمعيشة أبنائها، صيفاً وشتاءً كأشجار الزيتون والتين واللوز والصبار وكروم العنب، التي أنقرضت بسبب التحول الاجتماعي نحو مجالات أخرى أكثر إنتاجاً بقصد مجابهة الحياة المعيشية الصعبة .نشأ أول مجلس بلدي في بليدا عام 2004، برئاسة الشيخ حيدر حيدر لدورتين متتاليتين، عقبه الحاج محمد ضاهر الرئيس الحالي للبلدية.
نختم مع كلمة للشاعر نصري حجازي الذي رافقنا في جولتنا في بليدا، إذ يقول عن علاقته بالبلدة رغم الاغتراب: “في الغربة أكسر واقعي الجليدي، هناك بدفءِ مخزونِ ذاكرتي، وما بقي على جدرانها من بقايا صور… تؤنس وحدتي أزهار اللوز، وعبق التراب، وحكايا الشتاء، وسحر حطبات المواقد… في الغربة يعتصر الشوق قلبي، ينثرني رمل سواحل، أحيا بنصف قلبٍ ونصف روحٍ، وأستودعها نصفي الآخر، وأغفو على أمل لقاء يتجدّد كما الفصول…!

بليدا
الإسم: بليدا. القضاء: مرجعيون. المحافظة: النبطية. ارتفاعها: 650 م عن سطح البحر. بعدها عن العاصمة: حوالى 114 كلم. مساحتها: حوالى 10000 دونم، (30000 دونم مقتطع من قبل الاحتلال الإسرائيلي). الطرق المؤدية إليها: 1- صيدا – صور – جويا – تبنين – بيت ياحون – كونين – بنت جبيل – عيترون (130 كلم). 2 – النبطية – كفرتبنيت – دير ميماس – كفركلا – العديسة- مركبا – حولا – ميس الجبل (120 كلم). 3 – من البقاع: حاصبيا – جديدة مرجعيون – كفركلا – العديسة – مركبا – حولا – ميس الجبل (80 كلم). عدد سكانها: حوالى 11000 نسمة بين مقيم ونازح، ومغترب (6000 تقريباً غالبيتهم في ألمانيا). عائلاتها: بيضون، جابر، حجازي، علي، إبراهيم، حناوي، خليل، يوسف، ضاهر، سلامه، حسن، محمد، عباس، سليم، عليّان، رحال، محسن، داوود، موسى، سلمان، الحاج، قاسم، حيدر، معالي، حسين، شبلي، غازي، اسماعيل، مهدي، فرحات، كعور، مصطفى، عيسى، زينة، ياسين، الهادي، مرجي، فاعور، فقيه، نعمة.

السابق
بالصور والفيديو: ملامح من حياة ذو القرنين
التالي
«الأمن الفلسطيني» يلتقي حزب الله والجماعة وسوسان