العسكريون المخطوفون: حريتنا في الرياض والدوحة وأنقرة

فإذا كان الفراغ «خيارا استراتيجيا»، يجب أن نترقب تداعيات ربما تتجاوز محنة عرسال وجوارها، وإذا كان خيارا قسريا، فإن أسباب الوصول إليه.. معروفة، لكن معطيات الخروج منه غير متوافرة حتى الآن.

وفي انتظار رئيس الجمهورية المغيّب حتى اشعار آخر، والحلول المؤجلة لـ«السلسلة» والمياومين، وفتح أبواب مجلس النواب أمام التشريع، تنتظر قضية العسكريين المخطوفين من يتبناها ويرفع رايتها، ليلا ونهارا، حتى استعادتهم إلى مؤسساتهم وأهلهم.
وحسنا فعل أحد أعضاء لجنة أهالي العسكريين المفقودين، ممن بدأوا جولة على القيادات العسكرية والأمنية، بأن وضع اقتراحا مفاده الطلب إلى الرئيس سعد الحريري أن يركب طائرته ويجول على عواصم المنطقة، وتحديدا الرياض والدوحة وأنقره، «ففي كل عاصمة من هذه العواصم الثلاث سيجد من يملك نفوذا على المجموعات الثلاث التي تحتجز هؤلاء العسكريين.. ويكفي أن ترفع كل عاصمة الغطاء السياسي وحجب الدعم المالي والعسكري عن واحدة من المجموعات لجعلها تفرج عن العسكريين المحتجزين لديها».

وإذا كان الجيش اللبناني يدفع بالدم والعرق ثمن الانقسام السياسي الداخلي وتسلل نيران الأزمات الإقليمية المشتعلة، وخصوصا أزمة سوريا إلى لبنان، فان الإفراج عن العسكريين المخطوفين يشكل أفضل وسيلة لدعمه في هذا التوقيت بالذات، على أهمية المليارات وما ستوفره للجيش وباقي المؤسسات الأمنية من دعم، وبرغم ما سيتسرب منها الى غياهب السمسرات والصفقات والعمولات.
يقود ذلك إلى ضرورة أن ترتفع أصوات الرأي العام اللبناني، وأن تتحمل مسؤولية حماية هؤلاء العسكريين الذين لا ينتمون لا الى «8 آذار» ولا الى «14 آذار»، بل ينتمون الى كل بيت لبناني، وينطقون باسم كل صوت لبناني ينادي بحماية السلم الأهلي والاستقرار، فكيف إذا كان اللبنانيون لا يملكون غير مؤسساتهم العسكرية والأمنية وعملتهم الوطنية من خارج منطق الاصطفاف السياسي والطائفي والمذهبي؟
ولعل المحظور هو أن يتجرأ حزب أو هيئة أو مسؤول لبناني على وضع دفتر شروط من أجل إلزام الدولة اللبنانية بمقايضات قد تؤدي، إذا تم التجاوب معها، إلى إنهاء ما تبقى من أطياف الدولة، والمقصود هنا، وبصريح الكلام، قضية الموقوفين في سجن روميه المركزي.
صحيح أن ثمة مشكلة تتعلق بتسريع المحاكمات وأمكنة التوقيف، وهذه قضية وطنية عامة، وحسنا فعل وزير الداخلية نهاد المشنوق بأن طلب من الرئيس سعد الحريري أن يعطي أولوية في هبة المليار دولار، من أجل شراء قطعة أرض كبيرة لبناء سجن مركزي لبناني يتسع لآلاف الموقوفين، بدل السجن الحالي الذي يتسع أصلا لألف وخمسمائة سجين بينما يقبع فيه ما يزيد عن ثلاثة آلاف سجين … هذا فضلا عن اقامة سجون جديدة في جميع المحافظات اللبنانية.
وأي تجرؤ من أي كان بطلب مقايضة بين أي من العسكريين مجهولي الارقام والأسماء حتى الآن، وبين أي من الموقوفين الارهابيين الخطيرين (ينتمي العشرات منهم الى «القاعدة» وأخواتها)، هو بمثابة خيانة وطنية، ويجب أن يتعرض صاحبها للمساءلة أمام كل اللبنانيين، وخصوصا أمام ذوي العسكريين، وهنا يصبح السؤال: ماذا لو سئل أي من هؤلاء الأسرى عن اعتماد قاعدة المقايضة، فهل كان ليوافق عليها، وماذا يمنع غدا عائلة موقوف أن تبادر الى قطع طريق واحتجاز عسكري للمطالبة بمقايضته بابنها الموقوف في روميه أو في غيره من السجون مهما كان نوع الجنحة أو الجريمة، وهل يبقى من بعدها معنى لكل الدولة ولكل مؤسساتها العسكرية والأمنية، أم أننا نصبح جميعا اسرى في دولة شريعة الغاب؟
وهنا المطلوب من الجميع أن يقتدوا بالكنيسة عندما تبنت القاعدة التي أرساها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم في اثناء المفاوضات مع خاطفي راهبات معلولا، فعندما قدموا لائحة بأسماء مجموعة من موقوفي روميه لقاء الافراج عن «رسولات المحبة» على الأرض، كان جواب المفاوض الرسمي اللبناني واضحا: لقد افتدى السيد المسيح بحياته البشرية جمعاء.. وهؤلاء الراهبات سيفتدين بدمهن لبنان ووحدته وعيشه المشترك اذا ما تعرضن لأي مكروه.. لكن الافراج عن أي موقوف في روميه هو خط أحمر.
مخاطر المساومة
هنا بدت المعادلة الوطنية لا تقبل أي التباس: كل موقوف اذا صار حرا هو مشروع انتحاري (وبعضهم يجند انتحاريين)، وسيكون على اللبنانيين أن يدفعوا فاتورة أكبر من دمهم وممتلكاتهم وسلمهم الأهلي اذا تم الافراج عن أي من هؤلاء.
من أسف شديد، أن المواكبة العسكرية لقضية العسكريين المخطوفين خلال «غزوة عرسال»، لم تقدم حتى الآن اجوبة شافية عن الكثير من التساؤلات والملابسات، بدءًا من اللحظة الاولى لهجوم تلك المجموعات على مراكز الجيش في محيط عرسال، وايضا خلال فترة بقاء المسلحين في البلدة، وصولا الى مغادرتهم الى الجرود في سياق «تسوية» بقيت قطبها مخفية، بعدما نسجت خيوطها تحت جنح الظلام.
واذا كان قائد الجيش العماد جان قهوجي يحرص على تكرار «ان لا مساومة على حساب المفقودين وان الجيش يضع هذه المسألة في رأس أولوياته»، الا ان واقع الحال يؤكد أن يد القيادة العسكرية فارغة حتى الآن من كل ما من شأنه ان يميط اللثام عن مصير العسكريين، سواء اكانوا مخطوفين او شهداء أو مفقودين أو ربما في خانة «الفارين».
ولعل التخمينات الأولية تشير الى ان العسكريين موزعون لدى ثلاث جهات، الاولى تنظيم «داعش»، الثانية «جبهة النصرة»، والثالثة «لواء فجر الاسلام» الذي بايع تنظيم «داعش» قبل نحو شهر، ويتزعمه عماد جمعة الذي اوقفه الجيش صباح يوم السبت في 2 آب الجاري، والذي شكل إلقاء القبض عليه نظريا، الشرارة التي اشعلت معركة عرسال.
ولقد مرّ مجلس الوزراء في جلسته امس، سريعا على ملف المفقودين العسكريين من دون الدخول في التفاصيل، تاركا لرئيس الحكومة أمر متابعته مع لجنة وزارية تضم وزيري الداخلية نهاد المشنوق والعدل اشرف ريفي، بما يقتضيه من سرية وعناية، في وقت لم تتلق السلطة السياسية من «الوسيط» المتمثل بـ«هيئة العلماء المسلمين» أية تطمينات تتجاوز شريط الفيديو الأخير واسماء سبعة عسكريين.
واللافت للانتباه في الساعات الأخيرة إصرار «هيئة العلماء»، على إلقاء مسؤولية تعقيد الملف والمفاوضات على السلطة اللبنانية، وخصوصا الجيش اللبناني والقضاء العسكري، ربطا بالاجراءات التي ينفذها الجيش في بعض المناطق وتحديدا في الشمال وفي داخل مخيمات النازحين السوريين ومحيطها، والادعاء على جمعة من قبل القضاء العسكري في الساعات الماضية.
وفيما كشف وزير العدل اشرف ريفي ان الحكومة تسلمت مجموعة مطالب نقلتها «هيئة العلماء المسلمين» من اجل اطلاق سراح الاسرى العسكريين، رفضت مصادر مواكبة لهذا الملف تأكيد او نفي ما اذا كانت تلك المطالب تتضمن الافراج عن موقوفين اسلاميين في سجن رومية، او عن الموقوفة جومانة حميد التي ألقي القبض عليها في اللبوة خلال نقلها سيارة مفخخة من عرسال، إلا أنها ألمحت الى مطالب على شاكلة تخفيف الاجراءات والمداهمات التي يقوم بها الجيش في مخيمات النازحين السوريين، وهو الامر الذي ترفضه المؤسسة العسكرية «جملة وتفصيلا»، على حد تعبير مرجع أمني.
على ان ما حصل في عرسال بدءًا من الهجوم وحتى انسحاب المسلحين من البلدة يضع «هيئة العلماء المسلمين» أمام مجموعة من الاسئلة حول الدور الذي لعبته من البداية، والاسباب التي حملتها على الاعلان ان لدى المجموعات المسلحة 7 عسكريين فقط من دون الاتيان على ذكر العسكريين الآخرين فأين هؤلاء؟
وبرغم اعلان قائد الجيش، أمس، أن مفقودي المؤسسة العسكرية هم عشرون، فان وزيرا سياديا معنيا بالملف أوضح ان 17 جنديا ما يزالون في عداد المفقودين بعدما تم العثور في جرود عرسال في الساعات الثماني والاربعين الماضية على جثتي شهيدين للجيش اللبناني سقطا في المعارك.

ويصبح السؤال هنا: لماذا تصر قيادة الجيش على اعتبار العسكريين الذين فقد الاتصال بهم خلال معركة عرسال مفقودين وليسوا مخطوفين او رهائن لدى المجموعات المسلحة، هل لان المؤسسة العسكرية لا تعرف فعلا كم هو العدد الحقيقي للجنود المحتجزين لدى تلك المجموعات؟ أم ثمة خشية في مكان ما ان يكون بعض هؤلاء العسكريين قد استشهدوا الا انها لا تعرف امكنة وجودهم؟ أو ثمة خشية ان يكون من بين هؤلاء العسكريين من قرر ترك مركزه طوعا وصولا الى الالتحاق بالمجموعات الارهابية؟

السابق
حمالات صدر للرجال
التالي
مجموعة أبو حسن الفلسطيني ضمت مجموعات