عودة الحريري… الأمن ثمّ الرئاسة  

صحيح أنّ «ساعة» العودة اقتصرت على حلقة ضيّقة جداً من الأشخاص، إلّا أنّ «مبدأ» العودة كان قد تقرَّر منذ مدّة بعيدة بعد تأمين كلّ مستلزماته المطلوبة. في شباط الماضي ومع ولادة الحكومة، كانت الاتصالات الفرنسية – الإيرانية قد قطعت شوطاً كبيراً في سبيل تذليل العقبات أمام ولادة الحكومة بعد تسعة أشهر من المراوحة والانتظار. في تلك المرحلة كانت طهران تستقبل مسؤولاً فرنسياً رفيعاً في وزارة الخارجية الفرنسية بمباركة أميركية، حيث تطرّق البحث إلى المرحلة الجديدة التي دشّنتها واشنطن مع طهران وبالتالي فتح الأبواب الأوروبّية أمام إيران، إضافةً إلى الاستثمارات الهائلة التي تطمح فرنسا ومعها أوروبا في توظيفها في السوق الإيراني المتعطش لكلّ أنواع التوظيف والاستثمار. يومها نجَحت باريس في تأمين جوّ إقليمي صارم ساعدَ في ولادة الحكومة اللبنانية من خلال تنازل الطرفين الأساسيين، تيار «المستقبل» و»حزب الله» عن بعض شروطهما الصعبة. فنسيَ تيار «المستقبل» شرط انسحاب «حزب الله» من سوريا وتجاهلَ اتّهاماته المباشرة للحزب باغتيال الوزير السابق محمد شطح بعد أسابيع معدودة على العملية، فيما تجاوزَ «حزب الله» موَقّتاً شرط «الثلث المعطل» ورضيَ بإسناد حقيبتي وزارتي الداخلية والعدل إلى صقور «المستقبل».

 

لكنّ المفاوض الفرنسي لم يحصر الموضوع اللبناني فقط بالمسألة الحكومية، بل طرح عودة الحريري إلى لبنان، وسمِع موافقة واضحة والتزاماً بهذا الشأن. وهذا الجوّ سمحَ للوزير نهاد المشنوق باستضافة مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق «حزب الله» وفيق صفا في اجتماع رسمي وعلناً. منذ ذلك الحين، أضحت عودة الحريري تخضع لتوقيته هو وفق حساباته ونظرته، مع الإشارة أيضاً إلى ولادة مكرمة الثلاثة مليارات دولار السعودية في تلك المرحلة والمخصّصة لشراء سلاح فرنسي حصراً. ويعتقد البعض أنّ الحريري انتظر كلّ هذه المدّة قبل أن يعود لسبَبين: – الأوّل، سياسي ويتعلق بسعي الرئيس السابق ميشال سليمان لتمديد ولايته، فصحيح أنّ الحريري ومعه المملكة العربية السعودية كانا يؤيّدان التمديد، إلّا أنّهما كانا يدركان جيّداً معارضة «حزب الله» لذلك، ما يعني استحالة تحقيقه، وبالتالي من الخطأ صرف رصيد هذه العودة في «مشروع سياسي» خاسر، خصوصاً أنّ سليمان كان سيستغلّ العودة في هذا السياق. وتردَّد أنّ باريس سألت طهران التي أحالت الجواب إلى «حزب الله»، مع الإشارة إلى أنّ الرئيس الأسبق كان قد طلب موعداً عاجلاً لزيارة السعودية قبل انتهاء ولايته بشهر ونصف شهر ولم يحصل على جواب.

 

في هذا الوقت انفتح الحريري على العماد ميشال عون في إطار التمهيد لمرحلة ما بعد عودته التي كان يفضّل حصولها مع تأمين المناخ المطلوب لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ما سيعطيه وهجاً سياسياً داخلياً عابراً للطوائف. – والثاني يتعلق بالصعوبات المالية التي تواجهه، ما اضطرّه إلى عصر نفقات مؤسّساته في لبنان إلى الحدّ الأدنى، إضافةً إلى أنّ علاقاته ببعض المسؤولين السعوديين شهدَت بعض البرودة، على رغم أنّه ما يزال الشخصية اللبنانية الأولى في المملكة. إلّا أنّ انفجار الوضع الامني في عرسال في الشكل الخطير الذي حصل، والأهمّ جنوح الشارع السنّي في اتّجاه التعاطف مع التيارات المتطرّفة، والخشية من تغلغل هذه التيارات في الزواريب اللبنانية، حتَّمَ على الحريري ضرورة العودة الآن. ومن هذه الزاوية جرت مواكبة هذه العودة بمَنحِ لبنان عيِّنة نقدية بمليار دولار أميركي، يتولى الحريري الإشراف على صرفها. صحيح أن لا علاقة مباشرة وفورية لهذه العودة بالاستحقاق الرئاسي العالق في أتون النزاع الإقليمي، إلّا أنّها تحمل تباشير من الممكن ترجمتها قريباً.

 

فبعد اندلاع المواجهات في عرسال تواصلت باريس مع طهران على عجَلٍ وسمعت تجديداً لعنوانين كبيرين: تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني والقيام بكلّ ما هو مطلوب من أجل ذلك، وحماية الحكومة من أيّ هزّات أو خضّات كبرى. لكنّ باريس أبلغَت إلى المعنيين أنّها لم تسمع من المسؤولين الايرانيين أيّ إشارة في شأن ملف الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يعني بالنسبة الى الفرنسيين أن لا انفراجات قريبة على هذا الصعيد، على رغم التفاهمات الدائرة في العراق. لكنّ أوساطاً ديبلوماسية أُخرى لا تُجاري هذه النظرة التشاؤمية. وهي إذ تؤيّد الكلام بأنّ ما من جهة أو طرف ربَط الانفراجات العراقية بالملف اللبناني، إلّا أنّه في حال النجاح في تحقيق الإنجاز العراقي بعد تأليف حكومة تضمّ المكوّن السنّي ستنطلق الترتيبات العسكرية من خلال ائتلاف محلّي إقليمي بدعم فعّال من الطائرات الأميركية لضرب «داعش»، وأنّ هذه الخطوة ستفتح حكماً أبواباً ما تزال موصَدة حول الاستحقاق اللبناني. وستساهم المواكبة الداخلية الهادئة في ذلك. فوجود الحريري سيسهّل الولوج إلى ملفات ما بعد الرئاسة، مثل الحكومة وتركيبتها وقانون الانتخابات، وهو ما سيشكّل نوعاً من أنواع الضمانات المستقبلية، وبالتالي تدوير الزوايا الداخلية، وهذا ما يعني أنّ موعد انعقاد الجلسة المقبلة لانتخاب رئيس للجمهورية في 2 أيلول المقبل سيشكّل نقطة انطلاق على هذا الصعيد، وسط سعي النائب وليد جنبلاط الحثيث إلى ربط التمديد للمجلس النيابي بانتخاب رئيس للجمهورية.

 

أمّا في حال استمرّت المراوحة، فهناك مَن لا يستبعد حصول اهتزاز أمنيّ كبير قد يأتي على شاكلة اغتيال صاعق، يُلزم الجميع إنجازَ الاستحقاق الرئاسي، ولكن وفق سقفٍ منخفض لجميع الأطراف، مع الإشارة إلى أنّ المرحلة الخطرة تبدأ في النصف الثاني من أيلول.

السابق
هيل يعلن من السراي عن مساعدات عاجلة للجيش
التالي
رعد: نحن جاهزون في شكل كامل في أي مواجهة مقبلة مع إسرائيل