أكاذيب ما بعد العدوان!

توقف سقوط القنابل على غزة لمدة ثلاثة أيام، وهو ما سمح لآلاف الفلسطينيين بالعودة إلى ـ ما كان قبل ذلك ـ منازلهم وأحيائهم السكنية. ومع أن كثيرين يجدون في هذه الهدنة القصيرة متنفسا، إلا أنهم خرجوا من ملاجئهم ليجدوا أن الأماكن التي عرفوها لم تعد موجودة، إذ تحولت المنازل التي ولدوا ونشأوا فيها وتحوي جدرانها ذكريات حياتهم إلى أنقاض. ولم تكن حياة الفلسطينيين وآمالهم ضحية لهذا العدوان فحسب، وإنما تبددت ذكرياتهم أيضاً.

وكان إجمالي خسائر الأرواح على مدار شهر مرعبا، إذ تشير أحدث الإحصاءات إلى استشهاد ما يربو على 1875 فلسطينياً، بينهم 429 طفلاً، بينما جرح أكثر من 9536 آخرين، من بينهم 2877 طفلاً أيضاً. وفي ذروة الاعتداءات، نزح أكثر من ربع إجمالي سكان غزة داخلياً، وأصبح الآن ما يصل إلى 65 ألف شخص من دون سكن دائم. ولا يزال من غير المعروف كم عدد الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض، وكم عدد المنازل التي لم تعد ملائمة للسكن، وهو ما يفاقم الوضع المأساوي في قطاع غزة الشديد الفقر أصلاً.
وسواء قدم المجتمع الدولي مساعدات كثيرة أم لم يقدمها، فإن التخلص من الأعباء الناجمة عن هذه الحرب سيستغرق أعواماً مديدة. وحتى إذا أمكن تنظيف الشوارع، فإن الإصابات الجسدية والعقلية لن تلتئم سريعاً، ولن ينسى الناجون بسهولة مشاعر اليأس وقلة الحيلة والغضب جراء ما لاقوه أثناء العدوان.
وبينما استفاد الفلسطينيون من التهدئة لمدة 72 ساعة في تفقد الأنقاض ومحاولة ترميم حياتهم المبعثرة، بدأ الإسرائيليون أيضاً عملية التنظيف الخاصة بهم، ولكن بدلاً من المكانس والمجارف، كانت أدواتهم المختارة إعلانات على صفحات جرائد كاملة، و«دراسات» و«مؤتمر صحافي لتبرير الأخطاء» عقده نتنياهو. وما حاولوا تنظيفه لم يكن الفوضى التي خلفوها وراءهم في غزة، ولكن الضرر الذي ألحقوه بصورتهم عالمياً.

ويتوافق تصميم الإسرائيليين على شن الحرب مع جهودهم الرامية إلى إعادة صياغة رواية ما حدث أثناء الهجوم الدامي على مدار شهر حسبما يروق لهم. وباستخدام التضليل والتلفيق، لا يألون جهداً في دعم مؤيديهم وغرس بذور الارتباك والتشوش بين العامة على نحو واسع النطاق.
وعلى رغم أن الدماء لم تجف ولم يتم التعرف على جثث المفقودين تحت الركام بعد، إلا أن الإسرائيليين أصدروا الدراسات والتقارير بأن أعداد الجثث التي أوردها عدد من الوكالات التابعة للأمم المتحدة العاملة في غزة خاطئة، وأنها متحيزة ضد إسرائيل. وبناء على المراجعة المبدئية لأسماء من تدعي الحكومة الإسرائيلية أنهم كانوا أول 150 قتيلا فلسطينيا، زعمت أن نحو نصفهم كانوا مقاتلين. ومن خلال استنتاجات الإسرائيليين التي ارتكزت على «عينة» غير علمية، زعموا أن نصف خسائر الأرواح التي وقعت كانت في صفوف المقاتلين، وبالطبع، فهذه محاولة مستميتة لإنكار تأكيد الأمم المتحدة أن أكثر من 70 في المئة ممن استشهدوا كانوا مدنيين. وخلال الأيام التالية، اتى تضليلهم أكله. وبدلاً من رفض هذه الدراسات غير العلمية، نشرت صحيفتا «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» أخباراً موسعة عن «التضارب في إحصاء الجثث»، وزرعتا بذور الشك في القضية.
وعلاوة على ذلك، عقد نتنياهو في اليوم الأول من مفاوضات ما بعد وقف إطلاق النار، مؤتمرا صحافيا، ووضعت جماعتان داعمتان لإسرائيل إعلانات على صفحة كاملة في صحف أميركية، وكل منهما رددتا المزاعم التي تكررها إسرائيل منذ بداية الصراع: إسرائيل دولة أخلاقية؛ وإسرائيل تهتم بحياة الفلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، إذ تطلق دولة الاحتلال التحذيرات وتقدم المساعدات والغذاء والكهرباء للشعب الغزاوي، بينما تستخدم «حماس» المدنيين كدروع بشرية.
وفي مؤتمره الصحافي، تظاهر نتنياهو بالحزن بسبب خسائر الأرواح، ولكنه ألقى باللوم على «حماس» قائلاً: «لقد اضطرونا لفعل ذلك، وأرادوا زيادة عدد القتلى كي يستخدموها ضدنا، وكانت تحركاتنا ملائمة، ورداً مبرراً من دولة متمدنة وقعت ضحية للقتال ضد الشر»!
وبكل المقاييس، كانت عملية التنظيف الإسرائيلية هذه شكلاً فاحشاً من أشكال النفاق وإبراء الذمة هدفه منح المؤيدين نقاطاً للحديث، وإحداث ارتباك بين المراسلين وأفراد الشعب ممن يؤثرون فيهم. والغرض من هذه المحاولة المكشوفة كان تغيير فهم الجمهور لمشاهد الأحياء الكاملة التي رأوها مدمرة والأسر التي أبيدت بأكملها بسبب القصف العشوائي، أو الأهداف المدنية التي دكتها الهجمات الصاروخية العمياء.
وبدلاً من النظر إلى ذلك على أنه دليل على استخدام القوة بصورة مفرطة وغير ملائمة من محتل قاسي الفؤاد، أرادت إسرائيل اعتبار كل هذه المشاهد نتيجة حتمية مأساوية لما اضطرت حركة «حماس» الشريرة إسرائيل «الطيبة» إلى فعله!
وبالطبع، هناك لوم يقع على عاتق حركة «حماس». فقد وافق قادتها على حكومة المصالحة، التي قبلها كثير من دول العالم، والتي منحتهم فرصة للهروب من العزلة السياسية المتزايدة، وقد كانت أمامهم فرصة كي يصبحوا شركاء مسؤولين مع السلطة الفلسطينية. وكذلك علموا أن حكومة نتنياهو عازمة على تدمير الوحدة الفلسطينية الجديدة، ولا بد أنهم أدركوا من تجربتهم السابقة في العام 2006، أن إسرائيل ستستفزهم وتنصب لهم شركاً. وعلى رغم ذلك، قادهم تظاهرهم بالشجاعة والقوة وإصرارهم على المقاومة العسكرية مرة أخرى إلى الشرك الإسرائيلي وإلى معركة لا يمكنهم الانتصار فيها.
بيد أن ذلك لا يعفي إسرائيل على الإطلاق من سلوكها غير الإنساني، فقد مهد قادتها طريقهم للحرب واقترفوا جرائم نكراء خلال الاعتداءات التي استمرت شهراً كاملاً. وقد انتهت هدنة وقف إطلاق النار، ولا يزال كلا الطرفين يراوحان مكانهما، وهذا ما يدعو للقلق، من جديد.

 

السابق
شاهدوا كيف تحكم داعش دولة الخلافة الاسلامية (5)
التالي
حملة «غزة.. إكسر الحصار» تلتقي هيومن رايتس ووتش