سيرة حزبية – 14 الرفيق صقر.. المناضل الفوضوي الماراتوني

وصلتْ أصداء «نقد» الرفيق خالد لمبادرات الرفيق غسان إلى مسامع القيادة. لا نعرف كيف. ننظر إلى بعضنا، أنا وغسان وسامية، في محاولة لفهم تعليق اجتماعاتنا مؤقتا «ريثما تأخذ القيادة قراراً» بشأن المسؤول الجديد عن حلقتنا. صحيح اننا لم نطق الرفيق خالد، ولم نستوعب كيف يكون مسؤولاً عن حلقة حزبية وهو على هذه الدرجة من الكسل، على هذه الدرجة من القدرة الذهنية على تغطية كسله؛ ولكننا أيضاً في بداية التمحور العمالي هذا، لا نحتاج إلى غير من يوجه لهفتنا لكسب العمال إلى صفوفنا، بعدما أشَحْنا النظر قليلاً عن حرب التحرير الشعبية لتحرير فلسطين. لا تطول تساؤلاتنا ولا صبرنا. أسبوعان يمران، وها هو الرفيق صقر يتصل بنا فرداً فرداً ليعلمنا بأنه هو المسؤول الجديد، الذي سيتولى أمر قيادتنا.

الرفيق صقر لمحته أول مرة من بعيد، يتصبّب عرقاً، أثناء التظاهرات العارمة في ساحة 23 نيسان (البربير) المناهضة لمشروع روجرز. هو الذي ينظم المربع الخاص بمنظمتنا، بمفرده، يتحرك مثل الصاروخ بين صف وآخر، يحمل الميكروفون ويطلق الشعارات التي سنسير عليها طوال تظاهرتنا، يؤنب هذا على عدم انضباطه، وينادي ذاك ليرصّ الصفوف، ولا يتوقف على الذهاب والإياب من أول التظاهرة إلى آخرها، ليقيس ربما حجم تفوق مربع منظمتنا عددياً على بقية التنظيمات اللبنانية المشاركة. هذا ما أعرفه عن الرفيق صقر. وعندما يعقد أول اجتماع لنا، نشعر بأن طلَبنا على المزيد من المهمات العمالية سوف يلبّى بما يفيض عن وقتنا وقدراتنا.

وهو، أي الرفيق صقر، لا يخبئ طبائعه. يبدأ الاجتماع بما يشبه المحاضرة الحزبية عن الفرق بين البلاشفة والمناشفة؛ تعلمون أيها الرفاق إن الخلاف بين هذين الجناحين من الشيوعية الروسية لم يكن بالأساس سياسياً، إنما نفسياً. لم تكن المسألة زيادة أو نقصان في الوعي السياسي، أو المراحل التي يجب ان لا تُحرق، أو الانتهازية والانهزامية، ولا التحالفات أو الرؤى السياسية… إلى ما شابه؛ إنما الفرق هو في الطبائع، نعم في الطبائع؛ المناشفة كانوا لا يحبون النضال، لا يلتزمون، لا يضحون، لا يبادرون، لا يقدمون أرواحهم فداء الثورة. البلاشفة كانوا على العكس تماماً: أصحاب همّة عالية، والتزام وقناعة حديديَين. البلاشفة من طينة الرجال الكبار، هم انفصلوا عن المناشفة لأنهم يؤمنون بأن الثورة هي من صنع يدينا، مرهونة بقدرتنا على البذل، ولأنهم لا يراهنون أو يحسبون حسبة الصغار. وإذا كان لتمحورنا العمالي أن ينجح، وأن تتحقق غداً السوفييتات التي نحلم بها، علينا ان نكون بلاشفة صميمين، لا نتوقف أمام أي جهد، أي عمل، أية فكرة… كله نضعه بين أيدينا لنصنع منه مجتمع الحرية والمساواة. والرفيق صقر لا يمزح عندما يقول كل هذا الكلام. سوف تعلمنا تجربتنا معه بأن البلشفية ليست سوى «غطاء» شيوعيا لطاقته الهائلة على «النضال»، يقابلها طاقة لا تقل عنها عظمة في إضاعة كل هذا «النضال» في فوضى عارمة، ناجمة عن عجزه التام في حساب الساعة، أو الدقيقة، عن جهله التام لمعنى الوقت. الوقت عند الرفيق صقر، ببساطة، ليس موجوداً؛ يقول لك على الهاتف: «أنا قادم الآن إليك»، و»الآن» بالنسبة له قد تعني ساعات النهار كلها؛ يمكنه أن يلتزم باجتماع حزبي و»اتصاليَن» عمالييَن وتنظيم إضراب عمالي وتحريض العمال على أبواب المعامل بتوزيع مناشير «صوت العمال»؛ ولكن أيضاً، يمكنه أن يطيِّر كل هذه الالتزامات، لأنه «غاص» في نقاش امتد لساعات مع الرفيق كمال، صديقه الحميم، ترك المنظمة لأن التمحور العمالي هذا لم يعجبه، وكان يفضل أن تبقى المنظمة على «الخط القومي»، ولا تتقوقع على الوضع المحلي كما قال، عندما أعلن عن «انشقاقه» أمام رفاق آخرين، ساخراً من هذا «التقوقع»، مشبّهاً المتحمسين له بـ»الدجاجات». كتلة نارية عمياء هو الرفيق صقر؛ قيادته لحلقتنا عبارة عن سباق ماراتوني مع وقت لا يحسبه، ويضيعنا معه أحياناً كثيرة. أكبر مواهبه على الإطلاق هي التحريض، يعرف كيف يتكلم مع العمال، ربما يحبهم؛ ويقول لنا منذ البداية بأننا إذا لم نفهم نظرية فائض القيمة، فإننا لن نشعر معهم، لن نتقرب منهم إلا سطحياً، لن نكسبهم طويلا. لذلك يخصص لنا اجتماعَين، حيث «يفحص» استيعابنا لهذه النظرية. يأخذنا بحلمه عندما نتلعثم، ويطلب منا بعد شرح طويل جداً، نضيع فيه ثانيةً، أن «نراجعها» في البيت لنعود لمناقشتها مرة أخيرة، قبل الانطلاق الى التمحور العمالي الميداني.

الفرق واضح بين الرفيق صقر والرفيق خالد؛ لا يسعنا غير المقارنة. عند نهاية الاجتماع الأول، أهمس لغسان وسامية، وقد بتنا لا نفترق، حتى في الجامعة، بأن الاثنان ينتميان إلى العاصمة نفسها، ولكنهما يقفان على نقيض بعضهما. صقر يكبرنا بعشر سنوات، وهذا ما يجب ان يخفف من اندفاعته الحزبية… ولكن كلا، هو كالإعصار، يخلق رياحاً ترمينا بقوتها في الجهات المختلفة. هل أساسه «لبنان الاشتراكي»؟ أم «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين»؟ التنظيم الأحدث، أم الأقدم؟ التنظيم ذي الملامح «الثقافية، النخبوية»، أم ذاك الذي يحمل أصولاً قومية عربية؟ واضح انه ينتمي إلى الثاني؛ هو آت من القومية العربية التي اهتدت إلى الماركسية اللينينية وأصبحت «منظمة العمل الشيوعي». ولكن هذا لا يمنعه من الانزياح عن الأولوية القومية والانخراط في نضال طبقي حثيث؛ وذلك بسبب أصوله الإجتماعية ربما.

فللرفيق صقر قصة طبقية واضحة، يرويها لنا لاحقاً، على دفعات، بين الأوقات الميتة لنضالاتنا العمالية، تفهمنا شيئا من فوضويته ومن الحمى النضالية التي أصابته منذ صغره. يقول انه من عائلة مكونة من إبنتين وأربعة صبيان، هو في وسطهم تقريبا، أي الثالث قبل الأخير. جده كان يملك محلاً في سوق القطن، الواقع بالقرب من ميناء بيروت، يبيع ويشتري فيه أنواع القطن المختلفة بالجملة. وهذا السوق كان من أهم الأسواق البيروتية في العهد العثماني. لكن الحرب العالمية الأولى أتت على التجار المتوسطين من هذا السوق، ولم يعودوا قادرين على دفع إيجارات محلاتهم ولا ضرائب البلدية؛ بعد الضرائب التي فرضها العثمانيون عشية هذه الحرب. لذلك انتقل إلى دكان صغير بالقرب من منزله، في إحدى زوايا الطرق في محلة النويري. وعندما ورثه ابنه الوحيد، والد الرفيق صقر، لم تكن أوضاع الدكان مزدهرة، ولا راكدة. كان بوسعه ان يتزوج من ابنة تاجر قطن آخر، لم تصبه أضرار الحرب كما أصابت زميله في السوق. لكن ما أن تزوج حتى تدهورت أوضاع الدكان، واضطر أن يعرض فيه، فوق القطن البالي الذي لم يصرف أيام أبيه، كل ما يخطر في البال في حاجيات الحيّ اليومية: البونبون على ألوانه وأحجامه، «القضامة» والفستق، «الفرقيع» في الأعياد، الدفاتر والأقلام، الأزرار والإبر على أنواعها والكشاتْبين، معلبات «الكورن بيف» التي يعشقها المهددون بالفقر، الكعك، ربطات الخبز، صنادل وفساتين بطلت موضتها، من النوع الرخيص اللامع… وكان صقر وأخوته، منذ صغرهم الباكر يتناوبون على الحضور إلى الدكان، ومساعدة أبيهم عندما يعودون إلى المدرسة. كبروا كلهم في الدكان، وتعلموا فيه الحساب، وطبائع الناس وأخلاقهم، وكل أخبار الجيرة، التي كانوا يتبادلونها مع أخواتهم البنات… يقول صقر انهم لم يكونوا يعتقدون بأنهم سعداء وقتها، لأن تقصير أبيه في تلبية حاجات عائلته الكبيرة كانت تغطيها مساعدات تأتيهم من أخوالهم وخالاتهم، الذين احتفظوا بمكانتهم الاجتماعية بفضل حالتهم «المتينة» جدا قبل الحرب، وتعدد نشاطات والدهم، وربما مواهبه التجارية وحظوظه… أو كل ذلك معاً. كانت هذه المساعدات تنغص أبيه، وتدفع أمه إلى التستر عليها قدر الإمكان. فالأب كان صاحب كبرياء، ومعاملة الأخوال المتعالية تجرحه… ما كان يزيد من مشاحناته اليومية مع الأم حول «تمريرها» لتلك المساعدات؛ ما جعل الرفيق صقر يتصور انه كان تعيساً. ولكن في الواقع، كانت الجلسات في الدكان من أجمل أيام حياته، كما يقول الآن، لأنها غرست فيه «حب الشعب والجماهير» وكوَّنت عنده «روح الالتزام بقضاياهم»: الدكان كان موقعه استراتيجياً، شهد «ثورة 1958»، وولادة حبه العارم للعروبة الناصرية الصاعدة، كأنها الثأر التاريخي مما عاناه جده من قهر على يد الإدارة العثمانية، ومن زياداتها الاعتباطية للضرائب على التجار، عشية الحرب العالمية الأولى. هذا الدكان شهد كل اللحظات المحمومة، من أمامه توالت التظاهرات العروبية المنتصرة، منه تعرف أخوه الكبير على شباب القوميين العرب، وأدخل أخوته الصبيان الى حركتهم، منه الى «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين»، ومنه اكتسب الرفيق صقر تلك النشاطية الخارقة، تلك الموهبة التحريضية، ذاك التجاهل لكل شيء لا يعني النضال، بما فيه الوقت.

السابق
المولدات وصلت ايضا الى الجنوب..
التالي
’داعش’ والرئيس أوباما