‘طابق 99’: لعنة ذاكرة سحيقة وأوطان عاطبة

جنى الحسن

لا تستعيد الكاتبة جنى فواز الحسن في روايتها “طابق 99” (منشورات “ضفاف ودار الاختلاف”)، عذاب الحرب اللبنانية بقصد السرد المفضي حتماً الى المأساة. بل تفضح الزعم أنّ الجرح اندمل، في المواجهة التي تعقدها شخصياتها مع الذاكرة السحيقة. يحضر المرء عاجزاً عن النسيان، ومصاباً حتى اليأس بلعنة هذا الشرق.
الشخصيات نماذج عن استحالة العيش في وطن لم يترك سوى التشوُّه. سنوات تمرّ على ظنٍّ بأن السِلْم حلّ، ليظهر جيل الحرب متمسِّكاً بأمجادها، رافضاً الاعتراف بالخطأ. تُبرِز جنى الحسن عمق الفجيعة في نفوس خاضت الحرب طوعاً أو كراهية، مع فارق أنّ مَن يجاهر فخراً بالسلاح يخشى التصادم مع الخيبة، ومَن أرغمه الظرف على امتشاقه ينتهي معطوب الروح والجسد.
تغدو الكاتبة حفّارة قبور، غرضُها التخلّص من أوزار ثقيلة ترخيها الحرب على الأكتاف. تُلصِق بالفلسطيني مجد ندبة أبدية على وجهه، وهزيمة في قدمه، في مقابل إنقاذ روحه من مجرزة قادتها الميليشيات على مخيّمي صبرا وشاتيلا. تُمحى كلّ رواية عن كيفية موت والدته الحامل، فينشأ ساخطاً على مكان راح يسمّيه “الهنا”، كأنّه ينتقم منه بتجريده من الكينونة. يحمل الوالد الخائب من القتال مع “فتح” ولده الى نيويورك في محاولة للنسيان. يُظهِر السرد كمّاً من الوجع لم تفعل إزاءه مدينة السحر شيئاً. لقاء مجد الفلسطيني بهيلدا المتحدّرة من عائلة كتائبية، يخضعهما معاً لإمتحان التحرّر من دونية الماضي المكبَّل بالخطيئة.
تُمسي العلاقة مع المكان ذنباً يُضاف الى تاريخٍ من استباق النهايات التعيسة. كأنّ اللقاء النيويوركي حاجة الى الارتطام، بعد إخفاق اجتراح النجاة. لم يُتِح الطابق 99 حيث يعمل مجد، سوى رؤية الحياة عبثيةً تغزوها وجوه عصية على الصفح. يشي السرد بأنّ اختلاق الأوطان معذِّبٌ كفقدانها، والحروب لا تخلّف إلا أشباح أشخاص يبدون أحياناً غير موجودين. لا يتطرّق القصّ الى الماضي بهدف إسقاطه والانتصار لأفراد عايشوه بغبن، وإذ تتعمّده الكاتبة كعلاقة غير سوية بين الفلسطينيين وأطراف لبنانيين، فذلك لتُبيِّن أنّ الجميع يدفع الثمن، البعض بضياع الهوية، والبعض الآخر بفقد لذّة الحياة على رغم الترف والتحرّر.
يمتدّ الخطّ السردي نحو أشخاص لا تقلّ خسائرهم حجماً عن خسائر مجد وهيلدا. عدم اكتفاء الكاتبة ببنية واحدة تُصوِّر الحرب ممتدةً نحو الراهن، واعتمادها على وجوه لم تنقذها المسافة من تشظّيها، يظهر الإنسان كأنه سيزيف نفسه، يرفع عذاباته نحو القمة. يحضر التوق الى الارتفاع وتجاوز الذات المثقَلة، عبر تخبّط الرؤيا من الطابق 99، في مقابل العالم السفلي الحاضر نيويوركياً عبر المترو. تترك هيلدا موطنها للتخصّص في الرقص المناقِض للالتصاق بالأرض اللعينة، ويفقد مجد خيارات تخلّصه من الدونية. ينسى مع هيلدا أسواق صبرا وشاتيلا ورائحة عرق المارة فيها، ويظلّ في قرارته رجلاً مستوحشاً اجتماعياً، يعرج وله ندبة في وجهه.
ظنُّ هيلدا أنّها تحمل خطيئة الحرب والبنادق الكثيرة عقاب إلهي لها، كظنّ مجد أنّ اصابته في قدمه انتقام أبدي على موت أمّه وحيدةً. شعورٌ أخفّ بالخطيئة يحمله أشخاص لا يتحدّرون من أرض عربية، كالمكسيكية إيفا الهاربة من اغتصاب زوج أمّها وانتهاك جسدها، لكنّها القادرة على تحقيق ثروة بعد تحرّرها من حبّ الفلسطيني محسن، والأميركية ماريان المُدرِكة أخيراً أنّ زوجها قضى في حرب الخليج لأنّه اختار الموت بعيداً من الوطن.
تطرح الرواية صعوبة ألا يكون هناك نهاية. الحق مهدور، وجثثٌ تحضر كأنها لا تزال مكشوفة، كأنّما الأجساد العارية والمغتَصَبة تئنّ حتى الساعة. تصبح هيلدا بالنسبة الى مجد، “المرأة المسيحية”، كما يصبح لبنان بالنسبة اليه، “الهناك”. يظلّ الحب عاجزاً عن طيّ الصفحة، فقرار هيلدا العودة لمواجهة ماضيها، يضع مجد أمام تهيّؤ مرعب عن احتمال ذهابها من غير عودة (حاله مع والدته، ففلسطين التي لم يعرفها). يحافظ القصّ على مسافة بين الشفقة على مجد والتعاطف معه كونه مشدوداً الى الذاكرة المضرّجة بالدماء، مُقيَّداً بنكرانها والعيش فيها. ليس البُعد ما يدمّر، بل الشعور القاتل بالمظلومية. حاجة هيلدا الى تصفية الحساب مع الماضي، تعيدها الى وطن لا يزال مفتوحاً على معارك سخيفة. يتحوّل السرد ذريعة لأسئلة عن جدوى الحروب المستمرة. المرء لا ينسى، تحفر فيه المآسي عميقاً كالندبة على وجه مجد وشعوره بأنّ إزالة الجرح هي إزالة الحقيقة. يُحدِث الويل إحساساً مخيفاً بالغربة، وبأنّ المكان يتحامل على جعل الأشخاص بائسين. تعود لتحدّق في النقص وتحتال على الذاكرة وتنهي عداوة مع الجذور. تدرك أنّ استدراج والدها الى الاعتراف إدانة مرهِقة. لم يعد مهماً أن تعرف كم رجلاً قتل، وأن يُحصي لها عدد الجثث. عليه الكفّ عن مناداتها باسم الدلع “بيلّا”. إنّه أشبه باسم الكلاب، وهي ليست كلبة.

السابق
لحود ل’المنار’: ما حصل في عرسال ليس حلاً بل طعنة في ظهر الجيش
التالي
النهار: اختراق سياسي يواكب استعادة عرسال والدعم السعودي