الهجوم على الجامعة اللبنانية: مدخل إلى التقسيم والخصخصة

لم تكن مفاجئة أو غريبة، وطوال ثلاثين سنة، الدعوات المحمومة التي كانت تصدر عن مراجع روحية وزمنية وأحزاب وشخصيات ومجالس وهيئات تربوية معينة كانت تروّج باستمرار لمقولة “انهيار الجامعة اللبنانية”، تحت هذه الحجة أو تلك، ولتخلص من ذلك إلى خاتمة واحدة: ضرورة تقسيم الجامعة اللبنانية جامعتين، أو خمس جامعات – لإخفاء المعنى الحقيقي لفكرة تقسيم الجامعة.

كان هذا الطرح جدياً، وكان له أصحابه الفعليون المعروفون. كان هؤلاء يسعون في كل مناسبة، من خارج الجامعة كما من داخلها، ومن خلال التستر بالشعارات الكبيرة (شرعة التعليم العالي العالمية، توصيات اليونسكو، وغيرهما) أو بالأسباب الصغيرة (التباين بين موازنات الفروع الأولى والثانية، الفارق في مستوى الخريجين، وما شابه) إلى إثبات منطق فشل الجامعة الكبيرة الواحدة، وضرورة الاستعاضة عنها بجامعات على قياس المناطق وعلى شاكلتها وصورتها. وبلغ الأمر بأصحاب هذا المنطق محاولة تحويله إلى واقع فعلي من خلال إجراءات عملية من مثل:
– برامج ومناهج خاصة بالفروع الثانية دون سائر فروع الجامعة اللبنانية،
– تدريس معظم المواد باللغتين الفرنسية والإنجليزية تأكيداً “للتميّز التربوي والحضاري”،
– تفريع وتشعيب في المواد والبرامج لأعداد من الطلاب لم تكن تتجاوز أحياناً عدد أصابع اليد الواحدة،
– إنشاء روابط خريجين خاصة بالفروع الثانية، من دون الفروع الأربعة الأخرى،
– الحيلولة دون إحياء الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، رغم كل الضمانات التي قدّمت لممثلي الفروع الثانية،
– إقامة احتفالات تخريج فئوية تخص فرعاً بالذات دون سائر الفروع، وبما يخالف قرارات رؤساء الجامعة والعمداء،
– إقامة علاقات خارجية مباشرة دون المرور بالإدارة المركزية،
– إصدار مجلات ومنشورات تخص فرعاً بالذات دون الفروع الأخرى،
– محاربة أي توحيد أو مركزة للدبلوم، وإلى درجة التهييج الإعلامي ورفعه إلى المراجع الروحية والزمنية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية، وإثارة مشاكل طائفية متصلة بذلك،
– “فرض” لوائح الأساتذة المقترحين للتدريس في هذه الفروع في الكثير من الحالات، والمعنى الضمني لذلك لا يحتاج إلى تفسير، وقبول العمداء ورؤساء الجامعة بذلك، درءاً لكل اتهام بالاستئثار أو الغلبة أو الهيمنة،
هذا غيض من فيض الإجراءات العملية التي كانت تسعى دون هوادة إلى تدمير سمعة الجامعة اللبنانية الواحدة الموحدة، لتسهيل تدمير وحدتها، وتبرير التحول إلى جامعات مناطقية – طائفية في الحقيقة.
كان رؤساء الجامعة المتعاقبون ومعظم العمداء الذين تولّوا الإدارة في الجامعة يرون ذلك، ويعرفون خطورته، ولكن من دون أن يكون لهم في يوم من الأيام أي موقف سلبي أو عصبي من أصحاب هذا الطرح أو من فروعهم، واستخدموا بدلاً من ذلك كل أنواع الاستيعاب والتفهم والإقناع، بدل المواجهة، وإلى درجة “التغنيج” وإعطاء الأفضلية. وما ذلك إلا لوعي المسؤولين بضرورة عدم إعطاء الأفراد المتعصبين أو الموتورين أسباباً إضافية لشحن جمهور يسهل أخذه بالمرض الطائفي والفئوي.
مناسبة هذا الكلام هو النقاش الوزاري – الحزبي – الحار والصخب الإعلامي والمقالات الصحافية التي رافقت منذ أسابيع وصول ملف تعيين العمداء والتفرّغ إلى مجلس الوزراء – وآخر المقالات تلك مقالة الصديق الدكتور عصام خليفة على حلقتين (السبت 19 والثلاثاء 22 تموز 2014 في “النهار”). لا أرغب بمناقشة مقالة الزميل خليفة تفصيلاً، ولكن ما الصلة بين دفاعه عن ملف التفريغ وطلب إقالة مجلس الوزراء لرئيس الجامعة؟ هل أزمة الجامعة اللبنانية هي أزمة رئيس؟ وما الذي فعله رئيس الجامعة الحالي على غير ما كان يفعله رؤساء الجامعة اللبنانية السابقون دائماً – وتحديداً أخذهم الحساسيات الطائفية بعين الاعتبار؟
ولكن ما هالني حقاً هو أن لا يلحظ الزميل العزيز كيف أن تهم الاستئثار بالجامعة وتعيياناتها تنتهي لدى فريق معين بمجرد إضافة عدد من الأسماء إلى ملف التفرغ، وتنتهي عند فريق آخر بمجرد إضافة عميد أو عميدين إلى حصته من التعيينات! وهالني أكثر أن تتحول هجمته – ولا أقول نقده – للجامعة ورئيسها خدمة مجّانية للذين يناصبون الجامعة اللبنانية العداء، من منطق الخصخصة حيناً والتقسيم حيناً آخر.
الجامعة اللبنانية تحتاج إلى إصلاح حقيقي، نعم، ولكن ليس بهدف تدمير وحدتها وتحويلها إلى جزر طائفية، كل ينفث سمومه الفئوية فيها، ومنها، وبما يودي إلى التقسيم التربوي، ثم الثقافي، وربما السياسي أيضاً، في بلد ومنطقة بات لا تنقصهما أقصى درجات التعصب والجنون.
الجامعة اللبنانية لا تحتاج في الواقع هذا القدر من الضجيج، ومن الذين سبق وطردهم يسوع الناصري من الهيكل؛ فالكل في لبنان يعرف الكل، وكفى تغطية القبوات بالسموات.
كل ما تحتاجه الجامعة اللبنانية، وباختصار شديد، هو تطبيق القانون فيها، وإبعادها بالتالي عن الأهواء والأغراض والتدخلات السياسية والطائفية والشخصية، والاحتكام بدلاً من ذلك إلى المجالس التمثيلية فيها، فهي الحصانة الحقيقية للجامعة الوطنية.

السابق
’الجيش الاسرائيلي’ يعلن انسحابه الكامل من قطاع غزة
التالي
هيئة التنسيق أرجأت إضرابها غداً ومستمرة بمقاطعة التصحيح