في مداواة الأوطان بتفكيكها

احمد عبد اللطيف بيضون

تَواصَل إذن تردّي حركات الانتقال التي شهدتها بلادٌ عربية عدّة ابتداء من أواخر العام 2010 في أشكال دموية شتى من التنازع الأهلي. فشهدت مصر، وهي كبرى هذه البلاد، نوعا من الثورة المضادّة تمثّل في الارتداد الحاظي بغطاء شعبي واسع إلى هيمنة المؤسّسة العسكرية على النظام السياسي-الاجتماعي، وهي هيمنة ذات مندرجات اقتصادية وثقافية فضلا عن السياسية. يورث هذا الارتداد الذي يبدو وكأنه أنسى المصريين حصولَ ثورة على نظام حسني مبارك لجوءاً من الجانب المُقْصى بالقوّة عن سلطة أساء تدبيرها والمتعرّضِ لأشدّ القمع، وهو جماعة الإخوان المسلمين، إلى عنف يستهدف العسكريين بالأفضلية ولكن ضرباته تنال من بعض فئات الأهلين، وخصوصاً منهم الأقباط، وتعمّق خطوطَ فصل خطرة على مستقبل السلم الأهلي في البلاد.
ويتّصل في سوريا صراع مدمّر أكسبه اعتماد النظام الأفضلية الطائفية أساسا متصدّرا بين أسس توزيع السلطة ومغانمها ولجوؤه المفرط إلى العنف الإجرامي منذ الأيام الأولى لحركة التغيير طابعا طائفيا لم يلبث أن أخذ يستدرج عنفا جهاديا مقابلا. وكان أن اتّخذ النظام من وصمة الإرهاب، وهي ظاهرة، منذ 11 ايلول/سبتمبر 2001، على الأقلّ، على جبين السلفية الجهادية، راية لقبائح لا تعرف حدّا: من قتل بالجملة وتدميرِ عمران وتراث ومن تحويلٍ للمعتقلات إلى حقول تعذيب وقتل ومن تشريد لملايين البشر، إلخ. ثم إن الاندراج المتزايد لهذا الصراع في المواجهة الإقليمية التي يمثل قطبيها نظامان معلنا الصفة المذهبية هما النظام السعودي والنظام الإيراني راح يتحكم في رسم الخطوط الداخلية للصراع إلى حدٍّ جعل مصير سوريا الواحدة رهينة لقوى النزاع الإقليمي وأطواره وللتجاذب بين رعاته العالميين، من جهة، ولميراث من العنف الداخلي، المؤسّس على الطائفية، تزداد أثقاله المهولة كل يوم، من الجهة الأخرى. ولنضف بصدد الداخل أن ما يبدو متهالكا تحت وطأة الضربات التي يكيلها له النظام ووطأة التشظي التنظيمي الفادح أيضاً إنما هو، على وجه التحديد، ما ليس «جهاديا» في الثورة السورية. هذا فيما يبدو أكثر التنظيمات تشدّدا بل توحّشا في الإرهاب مرتفع الأسهم، منصرفا إلى إحكام هيمنته على أرجاء متزايدة الاتّساع من سوريا ومن العراق معا.
وفي ليبيا واليمن وفي البحرين أبرزت أطوارُ النزاع خطوطَ انقسام أهلية الصفة، من طائفية وقبلية جهوية، بدت ماثلة تحت السياسة ومنذرة، بسبب انتمائها إلى أرض الهويات الأولى، بتفسيخ ما كان قد اصطنع من وحدة معلنة للأرض الوطنية. فبدت هذه الوحدة هشّة القوام، ذات حقيقة سرابية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، وبدا تبديدها احتمالاً ماثلاً إلى حدّ الإلحاح بين مآلات الصراع. هذا ولمّا يصبحْ التقسيم (باستثناء الحالة اليمنية والبوادر الكردية في العراق، على الخصوص) مطلبا صريحا يثابر على رفعه طرف وازنٌ من أطراف المواجهة. وفي تونس، أفضى النزاع إلى نشوء وضع هو الوحيد الذي يبدو ذا شبه بالمنطلقات الأولى للحركة: أي بطلب الحرّية والكرامة والخبز وبإصلاح مؤسسات الدولة وبجعل الدستور منطلقا لمحاسبة السلطات وركيزة لديمقراطية تستبعد إخضاع جماعة لجماعة بما فيه إخضاع جنس من الجنسين للآخر. ولكن الاستثناء التونسي، إذ يبلغ هذه المحطة بعد عبوره منزلقا لم يكن يخلو من شبه بالمنزلق المصري، يثير من الخوف قدر ما يثيره من الأمل. فهو استثناء في بلد صغير، واقع في محيط بعضه شديد الاضطراب وبعضه ماض في وجهة مغايرة جداً لما آلت إليه الأمور في تونس.
وما يزيد الصورة قتامة أو يزيد القتامة شمولاً أن بلادين -على الأقل – من تلك التي لم تعصف بها حركات تغيير من سنخ الحركات التي استثارها ما دعي «الربيع العربي» قد ضربتهما الموجة التي قد تصحّ تسميتها موجة «التفكك الوطني»، وما تزال. هاتان البلادان هما العراق ولبنان. وفي كلتيهما كانت بوادر المضي نحو التفكك (أو الاستئناف الحثيث لمراحل سابقة من السير نحوه) أسبق بأعوام من الموجة التي افتتحها الحدث التونسي في آخر العام 2010. وكان دخولهما طور الاضطراب الشديد متقاربا في الزمن ومشتركا جزئيا في الأسباب. فإن لبنان قد شهد بدء الاهتزاز الجادّ للهيمنة السورية عليه وما أورثه ذلك من صراع متناسل الصور، في أعقاب الاجتياح الأطلسي للعراق في سنة 2003.
حيال هذه المسيرة المتنوّعة الفصول نحو التفكك في هذا العدد الكبير من الأوطان وما يتخللها من عنف بلغ في بعض مواطنه درجات من الهمجية كانت عصية على التخيل، يلحّ على الناظرين في شؤون هذه الدول ومجتمعاتها، من المثقفين وغيرهم، سؤال ينطوي على استعجال فائق وعلى طاقة ضغط هائلة على النفوس والعقول: ما القول في جماعات قدّمت شواهد ضخمة على افتقارها إلى الأهلية أو إلى الرغبة في البقاء وحدة سياسية من الصنف المسمّى دولة أو وطنا؟
عن هذا السؤال البالغ الخطر باشر محلّلون أفرادٌ الإصداء لطلب لا شكّ في وجوده على قارعة الطرق، خارج دائرة المحلّلين ووجهات نظرهم. باشروا التصريح بما لا تصرّح به، على وجه الإجمال، أطراف سياسية ذات تمثيل، فاعلةٌ في الساحات التي هي مصدر الهمّ وموضوع البحث.
وإلى الوجهة التي تشير إليها أجوبة هؤلاء المحلّلين وإلى ما يرجّح أن يفضي إليه من قد يعتمدون هذه الوجهة، لنا عودةٌ في عجالات مقبلة.

السابق
عرسال في عين العاصفة
التالي
المرابطون: للوقوف الى جانب الجيش لمواجهة الارهابيين