المسيحيون والسلاح: فقط للدفاع عن النفس؟

المسيحيون

مع بداية سبعينيات القرن الماضي، برز إلى العلن مشروع ترحيل المسيحيين من لبنان إلى دول أوروبيّة وأميركيّة وتوطين الفلسطينيين مكانهم، وهو ما يُعرف بـ”مشروع كيسنجر”. توالت السنون ولم يُحقّق المشروع أهدافه لكنّه نجح في تهجير كثير من مسيحيي لبنان فيما قتل مئات آخرون بعد انغماسهم في أتون الحرب الأهليّة، التي لم تفرّق بين أبناء طائفة وأخرى.

مع بداية الألفيّة الجديدة، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، شنّت الولايات المتّحدة الأميركيّة حرباً على الإرهاب. ليُعلن بعده عن انطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن ثمّ بدء الحراك في العالم العربي. هُجّر المسيحيون في العراق، اضطهد الأقباط في مصر، نكّل بمسيحيي سوريا، والخطر يداهم مسيحيي لبنان ويقضّ مضاجعهم من جديد، نتيجة استهداف مسيحيي الشرق (يبلغ عددهم حوالى 15 مليون نسمة).

وأمام المخطّط الواضح لتهجير المسيحيين من الشرق، الحلول المُمكنة أحلاها مرٌّ، وفق استطلاع أجرته “النهار” مع عينة من الشباب المسيحي اللبناني. فإمّا الهجرة من أرضهم بحثًا عن بلاد آمنة تحتضنهم وبالتالي التخلّي عن وجودهم التاريخي في الشّرق وحضارة عمرها آلاف السنين ووضع نهاية لصيغة التنوع والتعدد في الشرق، أو الانغراس في اللعبة وحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وفقدان حياتهم في حرب لن يجنوا منها سوى مزيد من التشريد والحقن الطائفي والدماء.
الشرق لنا
يقول يوسف : “عمليّة تهجير المسيحيين من الشرق مستمرّة منذ سنوات، وهي عاجلًا أم آجلًا ستطال لبنان الذي بقي في منأى عنها منذ انتهاء الحرب الأهليّة، لذلك لن أحمل القلم وأدافع بالرأي لأنّ التطرّف المُقبل علينا لا يفهم ولا يناقش ولا يتقبّل الآخر، بل سأحمل السلاح دفاعًا عن وجودي المسيحي وتمسّكًا بأرضي”.

يوافقه جوزف الرأي ويقول : “من الطبيعي أن أدافع عن أرضي وكياني، ولن أترك أرضي وأهرب. نحن أصل هذه الأرض، وجبل لبنان معروف تاريخيًا بوجود المسيحية فيه. المسيحيون هم ميزة الشرق ورأس الحربة في الدفاع عن العروبة، نحن حافظنا على اللغة العربيّة عندما أراد العثمانيون تتريك اللغة، ونحن من بادرنا إلى تدريس اللغة العربيّة في مدارسنا الكاثوليكيّة رغم الاضطهادات”.

أيضًا يقول ميشال : “إذا كان هناك فريق مستعدٌّ للدفاع عن هذه الأرض، سأشاركه ذلك. أمّا إذا كنت وحدي في هذه الحرب، فلن أعرّض نفسي للخطر. لكن الأكيد أنني لن أهرب ولن أستسلم للأمر الواقع ولن أتركهم يدخلون منزلي من دون الدفاع عنه. عندما يصل الخطر إلينا سنضطر للدفاع عن وجودنا”.

نعم للهجرة
من جهة أخرى، يقول روني : “شخصيّا أرحل من هنا، لأن لا الدولة ولا الكنيسة قدّمتا لي الضمانات، وبالتالي لن أدمّر حياتي. مبروك عليهم لبنان، الدولة والكنيسة لم تدعما وجودنا وتثبتنا في أرضنا لذلك باتت مشاعًا لكلّ من يضع عينه عليها. للأسف لا أحد مكترثاً لوجود المسيحيين في لبنان”.

يوافقه فارس الرأي ويقول : “صراحة لقد بدأت تحضير أوراق الهجرة من لبنان ولن أنتظر نشوب الحرب. لديّ أولاد ولن أدعهم يعيشون كما عشت أنا. لقد كبرت في الحرب وبقيت أحلم بلبنان آخر غير الذي أعيش فيه اليوم. والدي أمضى حياته على خطّ النار دفاعًا عن لبنان ولم يحقّق هدفه بالحصول على وطن لكلّ أبنائه. لن أورث أولادي ما ورثته عن والدي. المستقبل لن يكون مختلفًا عن الأمس”.

أمّا إدي فيقول : “أسافر ولن أنظر إلى الخلف. لم يأتنا ولا يأتينا ولن يأتينا من هذا البلد أي فائدة. لا يوجد ما يشدّني أو يشجّعني على البقاء والدفاع”.

لا للانهزام
إلى ذلك، يقيّم المطران سمير مظلوم في حديث لـ”النهار” آراء الشباب اللبناني، ويقول : “ردّات فعل الشباب في الاتجاهين شبه طبيعيّة، لأنّ عددًا كبيرًا منهم ضائعٌ أمام التطوّرات في المنطقة وفي ظلّ الجمود في الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها، كما أنّ معظم شبابنا لا يثق بالدولة. لكننا لا نتمنى خروجهم من بلدهم بل أن يبقوا ويصمدوا ويجاهدوا ويعملوا ويقاوموا بكلّ أشكال المقاومة. قبل اللجوء إلى المقاومة المسلّحة، يمكننا المحافظة على وجودنا من خلال العمل والمساهمة ببناء البلد وتقدّمه وازدهاره، وهذه مقاومة أيضًا، علينا التمسّك بهذا البلد الذي ضحّى أجدادنا وآباؤنا للمحافظة عليه. هذه بلاد الله وهو وضعنا فيها لتأدية رسالتنا في هذه المنطقة رغم الصعوبات التي نمرّ فيها. لا يجب أن ننهزم أمام الصعوبات. نقاوم من خلال بناء البلد اقتصاديًا وثقافيًا وحضاريًا وخلق روح المحبّة والمصالحة والإلفة”.

ويضيف مظلوم : “ليس كلّ المسلمين أعداء لنا مثل داعش وغيرها، أكثرية المسلمين معتدلون ومؤمنون عن وعي، ويهمّهم بقاء المسيحيين في هذا البلد والمشاركة معًا بتقدّمه وبنائه، فهم مؤمنون أنّ ميزة لبنان بتنوّعه، وبتاريخ من العيش المشترك امتدّ لمئات السنين. نحن أمام صعوبات كثيرة لكن لا يجب أن نسمح لروح الانهزام والخوف أن تتغلّل فينا وأن نهرب، لأنّ اللبناني أينما وُجد لن يعيش أفضل من الحياة في لبنان”.

ما للكنيسة وما عليها
وأمام ما يعانيه الشاب اللبناني عمومًا والمسيحي خصوصًا، من صعوبات في إيجاد فرص عمل، وتنامي المحسوبيّات السياسيّة على حساب الكفاية في مؤسسات الدولة، وفي ظلّ النزوح السوري الكثيف الذي استحوذ على وظائف عاديّة ووظائف اختصاص، كيف يتمسّك هؤلاء بأرضهم وعلى من تقع المسؤوليّة، الدولة أم الكنيسة؟ يردّ مظلوم : “هناك موجة تروّج للمسحيين وتدفعهم لاعتبار أنّ الدولة ليست لهم، فتخلّوا عن مطالبتها بالقيام بواجباتها وتأمين حقوقهم. صحيح أنّ شباب لبنان يعيشون فراغًا على كلّ المستويات، لأنّ الدولة غير قادرة على القيام بواجباتها تجاه كلّ المواطنين وتأمين الخدمات الأساسيّة لهم”.

ويضيف : “نحن نمرّ بمرحلة صعبة من تاريخنا، وكثير من الشباب يبحث عن عمل في الدول العربيّة وهذا أمرٌ مقبولٌ لأنّهم سيعودون يومًا إلى لبنان، خصوصًا أن قوانين هذه البلاد لا تسمح بتوطينهم، لكن الهجرة إلى الدول الأوروبيّة والأميركيّة غير مرحّب بها، بل المطلوب أنّ نعضّ على جرحنا ونصمد ونواجه مخطّطات تفريغ الشرق من مسيحييه”.

وعن الخطوات التي تقوم بها الكنيسة يردّ : “الكنيسة عليها واجبات، وبقدر إمكاناتها تساهم في حلّ بعض المشكلات، لكنّها لا تحلّ مكان الدولة. وهي تُعتبر ثاني أكبر ربّ عمل في لبنان بعد الدولة لناحية عدد الموظفين في مؤسساتها. كما أنّها تساهم في مشاريع إسكانيّة وتبيعها بسعر الكلفة، وتساعد في المشاريع الإنمائيّة والزراعيّة والصناعيّة في المناطق البعيدة والجبليّة، لتشجّع الشباب على التمسّك بأرضهم والعيش منها”.

حمل السلاح حقّ !
ماذا لو حمل مسيحيو لبنان السلاح في حال اقتراب الخطر منهم وفق المخطّطات المرسومة للمنطقة، ألّا يشكّل ذلك مدخلًا لحرب أهليّة جديدة؟ يقول مظلوم : “لا نتمنى نشوب حرب جديدة في لبنان، لكن إذا وجدت ظروف تفرض على المسيحيين الدفاع عن نفسهم، فالأمر مسموح ومطلوب ومشروع ومن حقّهم حمل السلاح. لقد أعطانا الله الحياة ولا يحقّ لأي أحد أن يسلبنا إياها، واجبنا الدفاع عنها. الكنيسة ليست ضدّ الدفاع عن النفس وإنّما ضدّ العنف وتسعى لحلّ الأمور بطرق سلميّة وبالحوار والتفاهم”.

ويضيف : “تطور الأحداث في المنطقة لا يستبعد هذا الخطر، لذا على الدولة أنّ تعي مسؤولياتها وتأخذ الاحتياطات اللازمة وأن تكون موجودة على كلّ الأراضي اللبنانيّة ومهيّأة للدفاع عن البلد. ومن الشروط الأساسيّة لإبعاد شبح الحرب عن لبنان، تفاهم السياسيين والتقارب في ما بينهم والمحافظة على المواطنين ومؤسّسات الدولة، والتنازل عن مصالحهم الضيّقة، لأنّ خلافاتهم توصلنا إلى الانهيار، لا يمكننا هدم الدول بحجّة الحصص الناقصة، هذا قصر نظر وانجراف وراء المصالح والارتباطات الخارجيّة. الكنيسة لا تملك قوّة السلاح ولا تستطيع إجبار الناس، لكنّها توعيهم وتذكّر بواجبات المسؤولين وهذا دورها، وعلى الشعب أن يصحو ويعي أن لبنان لا يبنى إلّا بتلاقي كلّ أبنائه، والدولة هي الملجأ الأوّل والمسؤولة عن كلّ اللبنانيين. فلينظّم الشباب أنفسهم لمقاومة سلميّة وحضاريّة وفكريّة، وليطالبوا بحقوقهم ويقفوا بوجه تخاذل المسؤولين”.

على المسيحيين التحرّر من التبعيّة
أمام مناشدات الكنيسة، هل يمكن القول أنّ المسؤولين المسيحيين لا يعيرون كلامها وتحذيراتها اهتمامًا؟ يقول مظلوم : “لا يمكننا قول ذلك، لكن هناك ظروف إقليميّة ومحاور ينتمون إليها، ومخطّطات دوليّة تفرض نفسها على المنطقة ولبنان جزء منها”.

لكن هذه المخطّطات تخدم اليهود والشيعة والسنة وليس المسيحيين، فما هو المطلوب من المسؤولين المسيحيين؟ يردّ : “هذا ما نأسف له ونلفت النظر إليه، نطالب بتحرّرهم من التبعيّة وتوحيد كلمتهم والقيام بواجباتهم تجاه مستقبل الوطن الشباب وتجاه تضحيات أجدادنا. الارتباطات متغلغلة والمخطّطات تمشي على قدم وساق، ونحن مقسومون بين المحاور. الكنيسة تحاول تقريب وجهات النظر لكن التجاوب ليس دائمًا”.

المسيحيون يفنون بعضهم
هل الانقسام يطابق النظريّة التي تحتمّ على الأطراف المسيحيين التوزّع بين المحاور لضمان جزء من الحضور على الساحة خصوصًا بعد إضعافهم وتسليم سلاحهم بعد عام 1990؟ يردّ : “للأسف، المقاومة المسلّحة كانت ضروريّة في وقت ما وفي ظروف معيّنة، ضحّى الشباب المسيحي بحياته في سبيل قضية، ونحن نُكبر هذه التضحيات لأنّها كانت ملزمة. صمود هذه المقاومة كانت ضروريّة وممتازة رغم الأخطاء، خصوصًا خلال الفترة الأولى عندما كان كيان الوطن والوجود المسيحي مهدّدين، مانعين الفلسطينيين من وضع اليد عليه. لكن بعد حرب السنتين تحوّلت الأمور وحوّرت القضية التي جمعتهم، وبدأوا يتصارعون على السلطة. هذا الصراع ضعّف المقاومة والدولة وأوصلهم إلى التقاتل في ما بينهم بين عامين 1989 و1990، فحُلّت القوات اللبنانيّة وأدخل رئيسها إلى السجن لمدة أحد عشر عامًا، وكسرت شوكة الجيش اللبناني ونفي العماد ميشال عون إلى الخارج لمدّة خمسة عشر عامًا”.

ويضيف : “نذكّر بهذه الأخطاء التي ارتكبت في الماضي للتحذير من الأخطار التي تهدّد وجودنا إذا فكّرنا بمقاومة من هذا النوع. السلاح ليس الحلّ، لأنّ الخبرة برهنت أنّ السلاح بيد ناس لا تجمعهم قضية، يؤدي إلى تقاتلهم وانقلابهم على بعض، ممارسين الفناء الذاتي. لا نتمنى عودة الحرب الأهليّة ولا أن يضطر شبابنا لحمل السلاح من جديد فهي ليست فكرة مشوّقة. يجب العمل على تقوية الدولة والجيش والمؤسسات العسكريّة والأمنيّة التي من واجبها المحافظة على كيان الدولة ومؤسّساتها وعلى المواطنين، وإيجاد حلّ للسلاح خارج إطار الدولة لأنّه يقود إلى حرب أهليّة”.

مخاوف الكنيسة
وعن المخاوف التي تحذّر منها الكنيسة، يقول مظلوم: “الخوف الأكبر هو من عودة الخلاف بين المسيحيين، لأنّ الانقسام والحقد موجودان بين الفئات، ولا أحد يمكن ضمان عدم لجوئهم إلى الصدام المباشر، لكننا نعمل على إبعاد هذه الكأس ودفعهم إلى ضبط النفس خصوصًا أننا مشينا في هذه الطريق ورأينا إلى أين أوصلتنا من غير أن يربح أحد منهم، علينا أن نتعلم من الماضي وأخطائه. إضافة إلى ذلك، هناك تخوّف من انفلاش الوجود السوري في لبنان من دون أي ضوابط وتنظيم، إذ لا يُعرف من يوجد ضمن هذا العدد الهائل (مليون نازح سوري أو أكثر)، هناك خوف من وجود امتداد للفئات المتطرّفة التي تحارب في سوريا والعراق داخل الوجود السوري في لبنان، واستغلال أي فرصة سانحة لتنظيم أعمال ما من دون قدرة الدولة على ضبطها”.

ويضيف: “هذه المخاوف تشكّل خطرًا على كلّ اللبنانيين، ولكنّها تطال المسيحيين بوجه أكبر، لأنّهم الأضعف وسيدفعون الثمن الأكبر، بينما الشيعة لديهم ما يكفي من التنظيم والسلاح، وقادرون على الدفاع عن أنفسهم، فيما لا يشكّل السنة هدفًا لهذه الحركات لكن من الممكن وجود متعاطفين منهم معها. المطلوب الوعي الكامل وتخطّي الأنانيّات. من الممكن أنّ لا نصل إلى هذا الحدّ ولكننا لا نعيش في جنّة بل في بلد منقسم تحدق به الأخطار من كلّ الجوانب، والآن الخطر بات في الداخل”.

هجرة المسيحيين في التاريخ الحديث
تنوّعت أسباب هجرة المسيحيين من الشرق، وكانت إمّا نتيجة الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي سادت قبل الحرب العالميّة الأولى وبعدها، إلى بلدان أميركا اللاتينيّة والشماليّة، وإمّا نتيجة حروب ومخطّطات سياسيّة.

النكبة الفلسطينيّة هجّرت المسيحيين الفلسطينيين بطريقة ممنهجة. الحرب اللبنانيّة التي اندلعت عام 1975 هجّرت آلاف المسيحيين وارتكبت مجازر كثيرة بحقّهم. الحرب الطويلة بين شمال السودان المسلم وجنوبه المسيحي أدّت إلى تهجير الآلاف وانتهت بتقسيم البلاد. غزو العراق عام 2003 أدّى إلى استهداف المسحيين من الإرهابيين في البلاد وتهجيرهم بعد نسف كنائسهم وقتل رموزهم الدينيّة، وأخيرًا طردهم من الموصل بعد احتلالها من داعش. تعرّض الأقباط في مصر للاضهاد منذ بدء الثورة عام 2010. وصولًا إلى تهجير آخرين من سوريا مع بدء الحرب فيها.

السابق
ارتفاع حصيلة قتلى القصف الإسرائيلي إلى 8 رغم الهدنة
التالي
«كأس النخبة» و«الدوري» في الموسم الجديد