تغطية منحازة للعدوان على غزة

تكاد التغطية الصحافية لهذه الحرب الوقحة على قطاع غزة لا تجدي سوى في تذكيرنا بالمشكلة الجوهرية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي منذ بدايته: وهي أن الإسرائيليين يُنظر إليهم، في الغرب، على أنهم أفراد شعب حقيقي، بينما ينظر للفلسطينيين على أنهم نكرة، ويتم التعامل معهم باحتقار وازدراء، وفي أحسن الأحوال بشفقة ورثاء، وليس كشعب حقيقي يمكننا التفاعل وبناء علاقة معه.

ولأن إسرائيل تعرف مدى أهمية الحفاظ على هذه المعادلة غير المتوازنة، فهي تعتمد في أي معركة على قدرتها في الهيمنة وتشكيل الرسائل والصور الإعلامية بقدر ما تعتمد على جيشها للفوز بالمعارك.
ونظراً لأن الإسرائيليين قد رعوا شركاء لهم في وسائل الإعلام والدوائر السياسية، فإن روايتهم للأحداث غالباً ما تحجب الواقع. ولعل تغطية محرري صحيفة «واشنطن بوست» للحرب على غزة الأسبوع الماضي، تبرز أفضل مثال على ذلك.
ففي كل يوم، إضافة إلى نقل الأحداث وفق هواهم، يقدمون لنا قصصاً مؤثرة عن الإسرائيليين الذين فقدوا حياتهم أو الذين يعيشون تحت وطأة الخوف.
وعلى سبيل المثال، مع بدء الإسرائيليين هجومهم البري، نشرت «واشنطن بوست» عنواناً رئيساً في الصفحة الأولى بالخط العريض يقول: «مقتل إسرائيلييْن اثنين في صراع غزة»، وعنوان فرعي بخط أصغر: «حصيلة القتلى تتجاوز 330 شخصاً.. وحماس تصعّد الهجمات»، ويبدأ الخبر بعبارة: «حماس تكثف هجماتها على القوات الإسرائيلية»، وبالطبع، يبدو تأثير هذا الطرح شديد الوضوح، حيث يُعتّم فقدان الجندييْن الإسرائيلييْن على مقتل 330 فلسطينياً.
وفي حين أكدت الصحيفة «مقتل» الإسرائيليين، أشارت إلى الضحايا الـ 330 كحصيلة للجثث، إلى درجة أنها لم تخبرنا بأنهم فلسطينيون.
وما يزيد الارتباك، الإشارة إلى العدد مقترناً بعبارة: «حماس تصعّد الهجمات»، وكأن «حماس» هي المسؤول الوحيد.
ولأن الخبر يبدأ بعبارة: «حماس تكثف هجماتها على القوات الإسرائيلية»، فإن القارئ الذي لا يعتمد على مصدر آخر للمعلومات، ولا يعلم أن الإسرائيليين قد اجتاحوا قطاع غزة، سيبدو الأمر له وكأن «حماس» هي المعتدي.
وفي يوم الأربعاء، مع زيادة حصيلة الخسائر، وعلى صفحتين متقابلتين، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» أيضاً أخباراً تزيد الطين بلة، ففي الصفحة التاسعة، وضعت خبرين إنسانيين مؤثرين.
الأول عن أم ثكلى فقدت ابنها – الجندي الإسرائيلي – في الحرب. وكان عنوان هذه القصة: «أنت خضت المعركة من أجلنا»، وتم ربط الخبر بصورتين، أكبرهما للأم الباكية يحيط بها أفراد الأسرة، وإلى جانبها، تظهر في إطار صورتان شخصيتان لشابين إسرائيليين يحملان الجنسية الأميركية، وهما الجنديان اللذان قتلا في غزة، وكانت التصريحات شخصية ومؤثرة. وفي الصفحة المقابلة، قدمت الصحيفة رسماً بيانياً لإجمالي الخسائر في الحرب، مستخدمة أرقاماً قليلة مجردة عن كل شخص قتل.
وأشارت الصحيفة إلى البالغين باللون الأسود، وللأطفال والرضع باللون الأحمر. ولم يقتصر الأمر على تقزيم عدد القتلى الفلسطينيين الـ406 أمام عدد الإسرائيليين، إذ إنها لفتت الى عدد الأطفال والرضع (البالغ عددهم الإجمالي 129) بخط أحمر صغير. ولم تذكر أسماء، أو تنشر صوراً أو قصصاً إنسانية، ولا حوارات مع أمهات فلسطينيات ثكالى، وإنما مجرد أرقام بالأحمر والأسود.
وإلى جانب هذا الرسم البياني القميء، وضعت الصحيفة خبراً عن الصعوبات التي يواجهها سكان غزة في إيجاد أماكن لدفن موتاهم، ومرة أخرى بلا قصص إنسانية تسلط الضوء لتوضيح ماهية الأرقام المجردة. وربطت مع الخبر صورة لشخص، قالت إن «مشاعر الأسى غلبت عليه»، لكن وجهه بدا وكأنه يصيح غضباً.
وهذه هي الطريقة التي يُطرح بها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دائماً، فيبدو الإسرائيليون شعباً حقيقياً يمكن رؤيته ومعرفته في قصص وأخبار فردية، في مقابل جموع فلسطينية فوضوية، لا تعرفهم ولا يمكنك تحديدهم.
وسيزعم المراسلون – دفاعاً عن أنفسهم – أن الإسرائيليين يطلعونهم على الأخبار ويمكنونهم من الوصول إلى الأسر المنكوبة، وأنهم لا يتمكنون، في المقابل، من الوصول إلى الجانب الفلسطيني. ولكن ذلك لا يعفيهم من الذنب، فهناك عدد من الشجعان الذين يغطون الوضع في غزة.
فعلى سبيل المثال، ينشر موقع «المونيتور» الإخباري يومياً أخباراً ترسلها الصحافية المرموقة أسماء الغول من القطاع. وفي كل يوم تمشي أسماء، مخاطرة بنفسها، في شوارع القطاع تنقل تفاصيل تدمى لها القلوب، وقصصاً شخصية لأسر فقدت أبناءها، أو ناجين دُمّرت منازلهم. وتستحق تقاريرها المتابعة من جمهور واسع، إذ تسلط الضوء على ضحايا كشفت عنهم في إطار سعيها الدؤوب وبحثها عن الحقيقة، وكذلك يعمل مراسلو شبكتي «إن.بي.سي.» و«سي.إن.إن.» على الأرض في غزة، وينقلون معاناة الفلسطينيين.
وقد فشلت «واشنطن بوست» ووسائل إعلام إخبارية أخرى كثيرة في إطلاع قرائها في الداخل الأميركي على تأثير تدمير إسرائيل للبنية التحتية في غزة.
وقد قرأت أخباراً في «المونيتور» وتقارير من جماعات الإغاثة الإنسانية، مثل «أنيرا» و«أونوروا»، ولكن أحداً لم يخبر القراء الأميركيين بأن إسرائيل قصفت معظم محطات الطاقة في غزة، تاركة للقطاع تياراً كهربائياً لمدة ثلاث ساعات فقط يومياً.
ولأن إمدادات مياه الشرب المحدودة في القطاع تتطلب كهرباء، أصبح الآن أكثر من 600 ألف فلسطيني بلا مياه، بينما يحصل بقية السكان على مياه غير نقية.
لم تحصل هذه الأخبار على الانتباه الذي تستحقه، وبدلاً من ذلك، تُنشر حكايات عن الإسرائيليين في الملاجئ، أو الإزعاج الذي حدث بسبب إلغاء بعض الرحلات من وإلى مطار بن غوريون أو مشاهد لإسرائيليين متكئين على الأرائك يشيدون بالقنابل التي تسقط على مدينة غزة، وكأنها عرض لألعاب نارية!

السابق
’تشفيط’ في كفركلا يثير الاسرائيليين
التالي
تقرير الحريات الدينية الأميركي: استمرار التمييز ضد الأقليات في تركيا