التفكير من خارج الفقاعة

الوضع الذي يعلق فيه الاسرائيليون والفلسطينيون يصبح أكثر فأكثر مثابة فقاعة مظلمة ومنيعة. وفي داخل هذه الفقاعة تطورت على مدى السنين مبررات متطورة ومقنعة لكل فعل يقوم به كل واحد من الطرفين. اسرائيل يمكنها أن تقول، وعن حق، انه لا يمكن لاي دولة في العالم أن تمر بصمت على هجمات لا تتوقف كهجمات حماس وتهديدات كالانفاق. وفي داخل هذه الفقاعة ستبرر حماس، على حد نهجها، هجماتها على اسرائيل في أن شعبها لا يزال يخضع للاحتلال وأن سكان القطاع يذوون داخل الاغلاق الذي تفرضه عليهم اسرائيل. في داخل فقاعة الوضع من يمكنه أن يجادل مواطني اسرائيل الذين يتوقعون بان تفعل حكومتهم كل شيء كي لا يصاب بأذى أي طفل في ناحل عوز أو في صوفا أو في كرم سالم من خلية لحماس تبرز أمامه من بطن الارض في منتصف الكيبوتس؟ وماذا سنجيب سكان غزة الذين يقصفون ممن يقولون ان الانفاق والصواريخ هي السلاح الذي تبقى لهم في مواجهة قوة عظمى كاسرائيل. ومن داخل الفقاعة الكتيمة، الوحشية واليائسة فان الطرفين محقان، على حد نهجهما. كلاهما يطيعان القانون السائد في الفقاعة، قانون العنف والحرب، قانون الثأر والكراهية.

 

ولكن السؤال الكبير الان، في ذروة الحرب، ليس سؤال الفظائع التي تقع كل يوم داخل الفقاعة، ولكن السؤال كيف يحتمل، بحق الجحيم، انه منذ اكثر من مئة سنة ونحن نختنق معا في داخل هذه الفقاعة؟ هذا السؤال هو، في نظري، الدرس الاهم الذي ينبغي ان ينشأ عن الجولة الدموية الاخيرة. ولما كنت لا أستطيع أن اسأل هذا من حماس، ولا أدعي باني أفهم طريقة تفكيرها، فان اسأل زعماء بلادي، رئيس حكومتها اليوم وأسلافه:كيف حصل انكم أضعتم الوقت الطويل الذي مر منذ المواجهة الاخيرة ولم تبادروا الى اي خطووة حوار، جس نبض للحوار مع حماس ومحاولة تغيير الواقع المتفجر بيننا وبينها. لماذا امتنعت اسرائيل في السنوات الاخيرة عن الدخول بنية كاملة الى المفاوضات مع القسم المعتدل والمستعد اكثر للحوار في الشعب الفلسطيني – من أجل ان تخلق بذلك أيضا ضغطا على حماس؟ لماذا تجاهلتم على مدى 12 سنة مبادرة الجامعة العربية، الكفيلة بان تجند دولا عربية معتدلة كان يمكنها، ربما، ان تفرض حلا وسط على حماس؟ بتعبير آخر، كيف حصل ان منذ عشرات السنين وحكومة اسرائيل غير قادرة على أن تفكر من خارج الفقاعة. وعلى الرغم من ذلك، فان شيئا ما في المعركة الحالية بين اسرائيل وغزة يختلف عما سبقها.

 

فضلا عن حماسة بعض السياسيين ممن يتلاعبون بنار الحرب، وخلف المسرحية الكبيرة من «الوحدة» – التي بعضها أصيب ومعظمها تلاعبي – يحصل في هذه الحرب، شيء ما ينجح، كما يخيل لي، في لفت انتباه اسرائيليين غير قلائل الى «آلية» ما توجد في أساس «الوضع» كله: الى تكراره العقيم، المميت. شيء ما في الدائرية المتكررة لافعال العنف والثأر والثأر المضاد يكشف لناظري الكثيرين، ممن رفضوا حتى الان الاعتراف بذلك، صورتنا في داخل «الوضع». فجأة يمكننا أن نرى بوضوح فظ صورة اسرائيل، الدولة ذات القوى الرائعة من الابداع والاختراع والجسارة، التي تدور منذ اكثر من سنة حول رحى النزاع، الذي كان يمكن ربما أن يحل قبل سنين. واذا ما تخلينا في لحظة واحدة عن المبررات والتعليلات التي نحمي بها أنفسنا أمام مشاعر الرحمة البسيطة والانسانية تجاه جموع الفلسطينيين الذين تفتك بحياتهم في هذه الحرب، فلعله يمكننا أن نراهم هم ايضا، اولئك الذين يطحنون معنا، على نحو مشترك، ويدورون الى ما لا نهاية في الدوائر العمياء وبتلبد حس مصدره اليأس. لا أدري ما الذي حقا يفكر به هؤلاء الفلسطينيون هذه الايام وماذا يفكر أهل غزة. ولكني أشعر بان اسرائيل تنضج. بحزن وألم وبشد على الاسنان، اسرائيل تنضج، أو الافضل، تضطر الى أن تنضج – رغم التصريحات الكفاحية والاعلانات الحماسية من السياسيين والمحللين المليئين بالهواء الساخن، وكذا فضلا عن الهجمة العنيفة من زعران اليمين على كل من يختلف معهم في الرأي – فضلا عن كل هؤلاء، فان العمود المركزي من الجمهور الاسرائيلي آخذ في الصحوة. اليسار على علم اليوم بقدر أكبر بقوة الكراهية لاسرائيل – وهذه لا تنبع فقط من الاحتلال – وبالبركان الاسلامي – الاصولي الذي يهدد اسرائيل وبهشاشة كل اتفاق يوقع هنا. كثيرون أيضا في اليسار يفهمون اليوم بان مخاوف رجال اليمين ليست فقط جنون اضطهاد وان هذه تتناول بعدا جوهريا ومصيريا موجودا في واقع حياتنا. آمل أنه في اليمين ايضا يعترفون اليوم أكثر – وان كان بغضب واحباط – بقيود القوة؛ وبحقيقة أن حتى الدولة القوية جدا مثل دولتنا لا يمكنها أن تعمل فقط وحصريا حسب ارادتها، وانه في العصر الذي نعيش فيه لم تعد هناك انتصارات لا لبس فيها، وتوجد فقط «صور نصر» ليس فيها ما هو حقيقي. صور النصر التي خلفها يمكن أن نرى بوضوح صورتها السلبية التي تقول انه في الحروب لا يوجد سوى خاسرين. وهذا أيضا: في أنه لا يوجد حل عسكري للضائقة الحقيقية للشعب الذي يقف أمامنا. والى أن يحل احساس الخنق لدى غزة، نحن أيضا في اسرائيل لن نتنفس الصعداء، ليس بكلتي الرئتين.

 

منذ عشرات السنين ونحن الاسرائيليين نعرف هذا، وعشرات السنين نحن نرفض أن نفهم. ولكن ربما هذه المرة فهمنا اكثر قليلا، أو للحظة رأينا واقع حياتنا من زاوية مختلفة قليلا. هذا فهم أليم، وبالتأكيد مهدد أيضا، ولكن هذا الفهم يمكن أن يكون بداية تغيير في الوعي. فهو كفيل بان يصيغ للاسرائيليين الحيوية والالحاح للسلام مع الفلسطينيين، كأساس للسلام مع الدول العربية الاخرى. يمكنه أن يعرض السلام – المحتقر جدا اليوم – بصفته الامكانية الاكبر، بل والاكثر أمنا، من كل الامكانيات التي تقف أمامها اسرائيل. فهل في الطرف الاخر ايضا، لدى حماس، سيتبلور مثل هذا الفهم؟ ليس لدي السبيل لمعرفة هذا. ولكن اغلبية الشعب الفلسطيني، الذي يمثله محمود عباس، سبق أن أجرى، عمليا، هذا الحسم في هجر طريق الارهاب واختيار المفاوضات.

 

فهل يمكن لحكومة اسرائيل الان، بعد المعركة المضرجة بالدماء التي اجتزناها، بعد ان فقدنا هذا القدر الكبير من الشباب والاحبة، الا نجرب، على الاقل، هذه الامكانية؟ هل ستواصل تجاهل محمود عباس كعنصر حيوي في حل النزاع؟ هل ستواصل التخلي عن الامكانية في أن يؤدي اتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية بالتدريج الى تحسين العلاقات مع مليون وثمانمئة الف من سكان غزة أيضا؟ ونحن، في اسرائيل في الداخل، سنكون ملزمين بان نبدأ، فور انتهاء الحرب، بمسيرة خلق شراكة جديدة داخلنا، شراكة تغير خريطة المصالح الضيقة والفئوية التي تسيطر علينا اليوم؛ الشراكة مع كل من يفهم خطر الموت الذي في استمرار دورة الرحى. مع كل من يفهم بان خطوط الحدود اليوم لم تعد تفصل بين اليهود والعرب، بل بين اولئك الذين يتطلعون لان يعيشوا بسلام واولئك الذين يتغذون بشكل نفسي وايديولوجي من استمرار العنف. اؤمن بانه يوجد في اسرائيل، لا يزال، كتلة حرجة من الناس، من اليمين ومن اليسار، علمانيين ومتدينين، يهود وعرب، قادرون على ان يتحدوا بشكل واعٍ وبلا أوهام، حول ثلاث أربع نقاط اتفاق بالنسبة لحل النزاع مع جيراننا؛ يوجد كثيرون ممن لا يزالون «يتذكرون المستقبل» (عبارة غريبة، ويخيل لي دقيقة، في هذا السياق) – المستقبل الذي يسعون له ويتمنونه لاسرائيل وكذا لفلسطين. لا يزال يوجد هنا – ومن يدري الى متى – أناس يفهمون بانه اذا ما غرقنا مرة اخرى في اللامبالاة سنترك الساحة شاغرة لاولئك الذين يجروننا جميعا – بتصميم وبحماسة – الى الحرب التالية، وعلى الطريق ايضا سيشعلون كل بؤرة ممكنة للنزاع داخل المجتمع الاسرائيلي. إذا لم نفعل ذلك، سنواصل جمعينا، اسرائيليين وفلسطينيين، في الدوران – بعيون مضمدة وبرأس مطأطيء، لشدة تبلد الحس والغباء – حول حجارة رحى النزاع، التي تسحق وتمعك حياتنا وآمالنا وصورتنا كبني بشر.

السابق
لبنان العراقي والسوري والبرازيلي والألماني… واللاّ لبناني
التالي
السيدة مونرو والبنات والنساء