هل ’داعش’ غريبة عنا؟

اقتصر جل مقاربات المحللين لظاهرة صعود «داعش» و«انتصاراتها» في الأسابيع القليلة الماضية، وصولا لإعلانها «الخلافة» على الطابع الأمني والعسكري للظاهرة، في ما تعلق بطبيعة المعارك وأسباب تراجع القوات العراقية مقابل الزحف الداعشي أو على الطابع السياسي الذي تميز عند أطراف معينة ـ خصومها ـ باتهام قوى إقليمية ودولية بدعمها، لتحقيق أجندات تقسيمية معادية لمحور المقاومة، كما عند أطراف أخرى، آثرت تبرير الظاهرة الداعشية في سياق يتم تصوير الحدث من خلاله على أنه ردة فعل طبيعية لتهميش لحق بمكوّن عراقي هام، أو باستئثار بالسلطة من قبل حكام بغداد.

أغلب هذه المقاربات على اختلاف سياقاتها وخلفيات محلليها تعطي الانطباع للمتلقي بأننا أمام حالة استثنائية تمثل نشازا عن نسقنا الاجتماعي والفكري، وكأن الأمر يتعلق بظاهرة وافدة علينا من كوكب آخر، مستبعدة طرح «الأسئلة الصادمة» التي تجسد حالة ما يمكن أن نسميه «التوتر الفكري» الذي تفرضه المقاربة العقلانية للواقع، المنطلقة من رؤى تتجاوز الحالة الآنية، إلى محاولة سبر أغوار الحالة المعرفية المحركة لهذا الواقع الآني.
أسئلة من قبيل: هل الخطاب السياسي والديني الذي تتبناه «داعش» مستجد أم هو جزء أصيل من تراثنا الفكري والفقهي؟ هل أداء «داعش» الميداني، بما هو أداء عدواني يقدس القتل والإجرام ويجعل من قطع الرؤوس غاية في حد ذاته، غريب عن بيئتنا التاريخية أم يجد له تأسيسا ما، داخل المنظومة الفكرية التراثية التي ما زالت تؤطر وعينا الجمعي؟ هل من تفسير لهذا الصمت القاتل والرهيب الذي يغطي الكثير من أبناء الأمة نخبة وعامة، متدينين و«علمانيين عقلانيين» عن الإجرام اليومي الذي يحصد العشرات يوميا في العراق، والأنكى من ذلك انه قد يجد من يبرر له ـ بكل برودة دم ـ بتصويره كردة فعل عن سياسات معينة؟ هل يمكن لنا بنيويا أن نفسر حالة اصطفاف ما تبقى من «حزب البعث» في العراق وبعض القوى «القومية العلمانية» خلف «داعش» تحت مسميات الثورة والتغيير وإيجاد كل المبررات التي تقود للقبول بها كحالة «تغييرية ثورية»….الخ؟ هل يمكن للبنية الفكرية الصانعة للوعي الجمعي لغالبية الناس في هذه الأمة، بما هي عليه اليوم، أن تتصدى للفكر الذي تمثله «داعش»، أم أنها تخلق القابلية في أذهانهم لاحتضانها؟ كيف لنا بالأصل أن نطرح أسئلة من هذا القبيل في الوقت الذي انطلق فيه مشروعنا النهضوي الذي كان يقع الإصلاح الديني في القلب منه منذ أزيد من قرن… لماذا فشل هذا المشروع إذاً، إن كان الذي يحدث الآن هو التعبير الجلي عن حالة الإخفاق هذه؟ وما أسباب فشل الدولة الوطنية «الحديثة» ما بعد الاستعمار، في الحفاظ على كيانيتها، ناهيك عن تحقيق الأهداف الكبرى في الوحدة العربية والنهضة؟
إن طرح هذا الأسئلة الصادمة يهدف بالأساس للانخراط في مقاربة عقلانية للراهن العربي المشرقي بالخصوص، أملا أن يكون طرحها بالأساس وإيجاد الأجوبة لها طريقا نحو التأسيس لحالة فكرية نهضوية تعيد ما انقطع من سيرورة المشروع النهضوي العربي وتجدد ما تسرب إليه من رواسب الجمود واللاعقلانية.
لقد قام المشروع النهضوي، في الأساس، منذ نهاية القرن التاسع عشر في ما اصطلح عليه بـ«النهضة الإسلامية»، على الإصلاح الديني كسبيل حتمي للخروج من حالة الجمود التي ورثها العقل العربي (والإسلامي) القائم على تجديد أساسيات الفكر الديني، كالتعامل مع النص المقدس لجهة إخضاعه لمستلزمات العصر وفتح باب الاجتهاد وترسيخ الانتماء للدين كإطار أوسع، وليس للمذهب أو الطائفة، وإعطاء الأولوية لمواجهة الاستبداد والاستعمار، وللوحدة السياسية…الخ.
ما حدث من نكوص وارتداد عام عن هذا المسار بدأ مع رشيد رضا بإحداثه قطيعة شاملة مع كل نزوع نحو العقلانية، بإرجاعه مسار الإصلاح الديني الذي بدأ يخطو خطوات في مسار التجديد والقطيعة مع الجمود والتخلف، إلى ضيق الوهابية بدل سعة الدين الجامع وبترسيخ الهويات المذهبية الجزئية، بدل الهوية الكلية التي شكلت أساس رواد النهضة الأوائل وبزرع بذور التناقض الوهمي ـ الذي كرسه الإسلام السياسي الذي خرج من عباءته ـ بين العروبة والإسلام، والارتباط الساذج مع الإمبراطورية التركية العثمانية باعتبارها «خلافة إسلامية» يكون إرجاعها أسمى غاية والانتماء لها أعظم شرف.
شكل هذا النكوص باكورة تشكل «العقل الطائفي العربي» الذي يتغذى من البنية الفكرية التراثية التي تؤطر وعي الغالبية من هذه الأمة، بنية لم تعرف إدارة الاختلاف السياسي والفقهي إلا من زاوية التكفير وقطع الرؤوس. بل والصعود بالقائمين بهذه الممارسات إلى مصاف الأبطال والقديسين. والمسألة هنا لا تتعلق بجلد للذات بالحديث عن خصوصية عربية أو إسلامية للإجرام والمجازر، كما يمكن أن يفهم البعض، فأوروبا عرفت تاريخاً مشابهاً لتاريخنا، بل يتعلق الأمر بتوصيف للبنية الفكرية التي لم نقطع معها كما قطع معها غيرنا في مسار نهضته ـ أوروبا نموذجا ـ لان هذه البنية ما فتئت تنتج لنا ظواهر داعشية تستمد منها خطابها، وآليات تفكيرها، فهي بهذا المعنى ترسخ لنا حقيقة أن الظاهرة الداعشية ليست إلا إعادة إنتاج لما هو كائن في هيئة منظومة فكرية وفقهية وتراثية ما زالت تحكمنا وتصنع وعي الغالبية من مجتمعاتنا أعطاها البترودولار زخماً إضافياً للانتشار العمودي والأفقي في بيئتنا.
فالحديث عن الانتصار على هذه الظاهرة ـ على أهمية الجانب الأمني والعسكري ـ من دون التفكير في آلية إعادة إنتاج مسار الإصلاح الديني الذي يقطع مع هذه البنية، هو ضرب من الخيال، لأنها مترسخة في الوجدان كما في العقول أكبر مما نتصور، فظاهرة «داعش» ما هي إلا تعبير مسلح وعنيف عن آلية تفكير موجودة ومسيطرة خلقت نسقاً اجتماعياً ـ فكرياً صعب حتى على «التيارات القومية العلمانية» اختراقه، بل هادنته وسايرته في أحيان، وذابت فيه في أحيان أخرى كما في حالة «البعث العراقي» الذي تحول من حزب علماني ينشد الوحدة والاشتراكية إلى جزء بسيط في معركة تديرها «داعش» بخطاب ظلامي وإجرامي غارق في الطائفية والجمود، أو حالة بعض «المفكرين العقلانيين» الذين ما زالوا ينظرون إلى مدارس جامدة ومتخلفة تشكل المرجعية الفكرية للظواهر الداعشية باعتبارها حركات إصلاحية ـ المدرسة التيمية نموذجا ـ فترسخ هذا النسق في المجتمع بتحوله إلى واقع متجذر، هو الذي يجعل من التقسيمات الطائفية تطغى على أي اصطفاف إيديولوجي حتى ولو كان ماركسيا.
هذا تماما الذي جعل من الحزب الشيوعي العراقي ينقسم إلى «شيوعيين شيعة» و«شيوعيين سنة» أو أن يقبل شيوعي عراقي الدخول إلى مجلس الحكم في العراق بعيد احتلاله بصفته الطائفية لا بصفته الحزبية الإيديولوجية، في مشهد غريب، ولكنه معبّر عن مدى ترسخ هذا النسق من جهة، وعجز التيارات العلمانية عن اختراقه بل وذوبانها فيه من جهة أخرى.
من النافل القول بأن فشل الدولة الوطنية «الحديثة» في الوطن العربي في الحفاظ على كينونتها بترسيخ الهوية الجامعة أمام الهويات الجزئية «التحت وطنية» هو تجلٍ لتجذر هذا النسق الفكري ـ الاجتماعي في البيئة العربية اليوم، وهو لا يعفينا البتة من التأكيد على الدور الذي قامت وتقوم به قوى الاستعمار القديم والجديد في تعميم التقسيم الطائفي كمحور جوهري لمشاريعها التوسعية.
إن طرح هذه الأسئلة، ناهيك عن محاولة الإجابة عنها، هو وحده الكفيل بإعادة تجديد خطابنا النهضوي الذي يجب أن يجعل من صعود الظاهرة الداعشية مناسبة لمكاشفة صريحة لذواتنا بتصحيح وعينا من خلال إحداث القطيعة الضرورية مع كل البنى الفكرية الموروثة الجامدة التي تعيد إنتاج نفسها كل مرة من خلال النهل من الزمن الفتنوي الجامد، قطيعة تعيد مسار الإصلاح إلى نبعه الأول، بدونها سوف نكون أمام ظواهر داعشية أخرى، يتجدد معها سؤالنا: هل فعلا «داعش» غريبة عنا؟

السابق
المحكمة الدولية: المحكمة ليست صاحبة الاختصاص في قضية «الجديد»
التالي
مجزرة مدرسة «الأونروا» ترفع قتلى غزة إلى 750