الصمت العربي المريب!

في عزّ صعود نجم المنطقة العربية مع صعود نجم الذهب الأسود، و”تألّق” بعض الدول العربية بشخصانيّة أنظمتها التي أوصلَتها إلى “الربيع العربي” فالانهيار العربي الذي لا سابق له، وفي عزّ ازدهار لبنان كوطن للحريّات العامة وللديموقراطيّة النادرة الوجود في العالم العربي، حصل المقدَّر والمكتوب.

في الثالث عشر من نيسان 1975، بُعيد الظهر، كان القدَر متجسّداً في “بوسطة عين الرمانة” التي خَتمت بدماء ركابها ورصاص مطلقيه “المجهولين” كل ما كانه ذلك اللبنان قبل دقائق، لتفتح صفحة سوداء لتاريخ من الأحداث والحروب والمطبّات لا يزال اللبنانيّون “يتنعّمون” به حتى اللحظة، وربما إلى زمن غير واضح المعالم والنهايات.
ولم يلبث حادث البوسطة تلك أن تطوّر سريعاً، ليتحوّل فخاً مدروساً ومتْقناً للبنان ولـ”قضيّة العرب الأولى”، ولـ”المقاومة الفلسطينيّة” التي انفلشت في شوارع الحمراء والخضراء، وانتقلت المواجهة مع إسرائيل من حدود العرقوب إلى حدود عيون السيمان وعيون الناس أجمعين…
ليس هنا بيت القصيد، ولا نتائج تلك البوسطة وتلك المقاومة وتلك الحرب التي لا يزال لبنان يسدّد فاتورتها، بل المقصود بكل هذه الديباجة هو الموقف العربي من مأساتَي أهم “رمزين” في ذلك الزمن العربي: بيروت كعاصمة منفتحة على الشرق والغرب وحاملة لواء فلسطين السليب، ومقاومة ياسر عرفات الذي طاب له المقام وطابت له كرسي المرجعيّة لمختلف القيادات التي كانت تلتمس الزيارة والحصول على الرضا.
على رغم كل الضجيج والمواجهات، في كل التدمير الذي ابتُليت به بيروت وأسواقها وتراثها ومعالمها التاريخيّة، فإن صوتاً عربيّاً واحداً لم يُسمع. ولم يصدر حتى بيان “رفع عتب” يقول الجملة المملّة إياها: ارفعوا أيديكم عن لبنان!
فراعني ذلك، واندفعت إلى كتابة سلسلة من المقالات في زاوية “الموقف هذا النهار” تحت عنوان: الصمت العربي المريب.
مما شجّع، على ما يبدو، صحافياً بريطانياً كان يتردّد إلى مكتبي في تلك المرحلة، على تزويدي نسخة من اقتراح أصدره هنري كيسينجر يوم كان رئيساً لمجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض. ولا أزال أذكر عنوانه: تريدون السلام في الشرق الأوسط، اعطوا لبنان لسوريا.
وفي سياق سرْد الأسباب التي أوردها “العزيز هنري” تبريراً لهذا الاقتراح، الذي نُفّذ لاحقاً، “أن تسكير لبنان هو تسكير للمنطقة”. عندئذ يصبح في الإمكان التصرّف بالقضية الفلسطينيّة ومقاوميها ودُعاتها. وقد نشرت التقرير في الزاوية ذاتها.
حضَرتني كل هذه التفاصيل والوقائع، وأنا أتابع مأساة غزة على “دويّ” الصمت العربي المريب ذاته، وانهماك “الدولة الإسلامية” في العراق باقتلاع المسيحيين أهل التاريخ والجغرافيا، عوض محاولة دعم الغزّاويين ونُصرتهم في محنتهم ضد إسرائيل. إنه “العزيز هنري” نفسه،.

السابق
ياسر أبو هلالة مديراً لـ«الجزيرة»
التالي
بالفيديو.. سما المصري تنهال بالضرب والعض على ريهام سعيد