كابوس غزة يتواصل!

لا يسعني إلا أن أتخيل حجم الرعب الموجود في غزة اليوم مع تصعيد إسرائيل هجومها على القطاع الفقير المزدحم. إنه كابوس مستمر من الألم والخسارة والصدمة والدمار. والأرقام المحزنة تنبئ في حد ذاتها بجزء من الواقع المرير، مع قتل المئات وجرح الآلاف وفقدان عشرات الآلاف منازلهم، بينما أضحى ما يربو على 600 ألف غزاوي من دون مياه. بيد أن قصة غزة أكبر من هذه الأرقام والهجوم الحالي.

حتى في الأزمنة السابقة، كان ما يحدث في غزة كابوساً. في بداية تسعينيات القرن الماضي قضيت وقتاً في مخيم «جباليا» الذي يقطنه ما يربو على 80 ألف لاجئ فلسطيني. وعلى مدار 25 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي، لم يُفعل شيء على الإطلاق لتحسين البنية التحتية لهذا المخيم. فالطرق لم تكن معبدة، ومياه الصرف كانت بركاً في وسط الشوارع، تتدفق مباشرة إلى البحر ذي الشاطئ الملوث. وكانت السمة المميزة للمكان هي الفقر المدقع. وفي العام 1994، زار وزير التجارة الأميركي آنذاك رون براون غزة بعد رحلة إلى جنوب أفريقيا. وعند عودته، أخبر الصحافيين بأن ما شاهده في جباليا أسوأ مما رآه في سويتو التي كانت ترزح تحت وطأة التفرقة العنصرية والاستعباد في جنوب أفريقيا.
وأثناء سنوات الاحتلال المباشر، تعاملت إسرائيل مع غزة على أنها معسكر للسجناء، إذ لم يكن الفلسطينيون بالنسبة لهم أكثر من مجرد عمالة رخيصة، وليست لهم سوى حقوق محدودة، وتفرض على تحركاتهم قيوداً مشددة. وعندما قاوموا، كانت النتيجة أنهم ذاقوا أسوأ قمع يمكن تخيله. وخلال هذه الفترة، دُمرت آلاف المنازل، وتم ترحيل المئات قسراً، وتعرض الأسرى للتعذيب، وامتلأت الحياة اليومية بالخوف من وحشية المحتل.
وفيما كان ارتياد شواطئ البحر الأبيض المتوسط محظوراً على سكان غزة في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي، كانت المشكلة الأكبر في منع وصولهم للمياه والأراضي التي كانت تخصص للمستوطنات اليهودية في قلب القطاع فقط. ولن أنسى يوماً صور الفرحة بعد اتفاقية أوسلو على وجوه الشباب الفلسطينيين الذين كانوا يمرحون للمرة الأولى على تلك الشواطئ.
وخلال الفترة الواقعة بين 1967 و1994، أعاقت إسرائيل تطوير الضفة الغربية وغزة، وجعلت اقتصاد المنطقتين يعتمد اعتمادا كبيرا على الصادرات والواردات والوظائف الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، بات مصدر الفلسطينيين الأكبر للحصول على دخل هو العمل اليومي الشاق في إسرائيل. وكانت هذه الوظائف ذات أجور منخفضة في الإنشاءات والزراعة والخدمات.
وإذا كان العمل في إسرائيل مهيناً، فقد كان الذهاب للعمل تجربة أكثر إذلالاً. ولأن القانون الإسرائيلي يحظر على الفلسطينيين قضاء الليل داخل الأراضي الإسرائيلية، كان يتعين على العمال المحتملين التجمع بالقرب من الحدود كل يوم بحلول الساعة السادسة صباحاً، وانتظار الاختيار من بينهم. وبمجرد انتقاء العمال المطلوبين، كانوا يمرون عبر نقاط التفتيش الأمني. وقد زرت الممرات الأمنية المنصوبة عند الحدود، ورأيت مشهداً لا يصدقه عقل حدث أمامي مع توجه الفلسطينيين في صفوف عبر الممرات حاملين بطاقاتهم فوق رؤوسهم، بينما يفتح الجنود الإسرائيليون الممرات أمامهم ويصيحون بهم ليرفعوا أوراقهم إلى أعلى، ناظرين إلى أسفل كي لا ينظروا إليهم.
وعندما قررت إسرائيل إغلاق الحدود في منتصف التسعينيات، خسر آلاف الفلسطينيين فرص العمل، ولأن إسرائيل لم تسمح للفلسطينيين بحرية استيراد المواد الخام وتصدير المنتجات النهائية، لم يتم توفير وظائف جديدة في غزة لأولئك الذين مُنعوا من الوصول إلى الأعمال اليومية الشاقة داخل إسرائيل. وخلال العقد التالي، ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب في غزة إلى مستويات قياسية، تراوحت بين 70 و80 في المئة، ما يعني أن أكثر من ثلاثة أرباع الشباب تحت سن الثلاثين كانوا عاطلين من العمل، ولا تلوح في الأفق فرص عمل أو دخل لهم، وبالتالي، غابت عنهم ملامح الحياة الطبيعية.
وعندما رحلت إسرائيل عن غزة في العام 2005، بدلت سيطرتها المباشرة بهيمنة غير مباشرة، وأحكمت حصارها الكامل على القطاع. ومنذئذ، باتت عمليات قصف واجتياح القطاع أموراً معتادة. والهجوم الحالي هو الخامس منذ العام 2006. ويصف الإسرائيليون هذه الهجمات بأنها تهدف إلى إعادة الأمور إلى نصابها. وفي كل مرة، يسفر الدمار عن خسارة بشرية ونفسية كبيرة للفلسطينيين الذين يتعرضون للإصابة مرة تلو الأخرى.
وقد قرأت مؤخراً بحثين «ذكيين» منفصلين أصدرتهما مؤسستان بحثيتان في واشنطن حول تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). وعارض المؤلفون التدخل الأميركي، داعين إلى توخي الحذر خشية أن يؤدي التدخل إلى تعزيز أو مكافأة المالكي أو الأسد، المسؤولين عن ظهور التنظيم المتطرف الذي يسيطر الآن على أجزاء من الدولتين. ويقولون إن «داعش» هي نتاج النظامين العراقي والسوري، وقمعهما الوحشي وإنكارهما حقوق أفراد الشعبين الذين جردوا من إنسانيتهم، ومن الممكن أن يكون اليأس هو ما دفعهم إلى تشكيل مقاومتهم الشرسة من أجل التغيير.
وبينما كنت أقرأ هذين البحثين، فكرت في الكابوس الذي استمر عقوداً تعيشه غزة وشعبها البائس. وفكرت في حماس ومقاومتها واستخدامها السلاح. وتماماً كالمواطنين السوريين والعراقيين العاديين، يريد الفلسطينيون أن يعيشوا حياة عادية، ويرغبون في أن يتمكنوا من مشاهدة أطفالهم وأحفادهم يكبرون وينعمون بحياة سعيدة. لكن الفلسطينيين على مدار عقود، كما يزعم الإسرائيليون، اختاروا الموت! بيد أن السبب في ذلك أن الإسرائيليين لم يسمحوا لهم أبداً بفرصة اختيار الحياة.
كأي شعب في العالم، امنحوا الفلسطينيين الأمل والحرية والاستقلال والسلام، وسيختارون هم الحياة.

السابق
60 قتيلا في هجوم انتحاري استهدف حافلة تقل معتقلين شمال بغداد
التالي
هكذا باعت تركيا نفط كردستان إلى اسرائيل!