رمضان في حياة الطوائف الاخرى

بيروت مدينة التعايش والإنصهار بين مختلف أهلها وعائلاتها على تعدد طوائفهم، كانت تعيش أجواء رمضان على قاعدة إحترام حرمة الصيام، من دون التفرقة ما بين المسلم وغير المسلم، انما كان الجميع يراعون مشاعر بعضهم البعض لدرجة أن المجتمع البيروتي بأسره كان يشارك مع عادات وتقاليد شهر الصوم بكل بهجة وسرور إنطلاقاً من حالة الإنسجام التي كانت تجمع أهالي بيروت على المحبة والالفة والإحترام المتبادل.

فالمجتمع البيروتي الذي شهد عبر الحقب التاريخية موجات من الوافدين الأتراك والتركمان والأوروبيين وموجات اخرى من الولايات والمدن العربية، ترسّخت بين عائلاته من مختلف الطوائف تشابه في العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية المختلفة، مع المحافظة على خصوصية وحرية المعتقد الديني لكل الطوائف.
لذلك كان المجتمع البيروتي يجمع في ما بينه الكثير من المظاهر الإجتماعية المتشابهة والمتطابقة ان كان على صعيد العادات والتقاليد او على صعيد الملبس والسلوك الإجتماعي أو على صعيد محاسن الأخلاق والمعاملة الحميدة القائمة على الإحترام المتبادل، وذلك تعبيراً عن الإندماج والوحدة بين أبناء المدينة.
وحتى محكمة بيروت الشرعية في العهد العثماني كانت تبحث أمور مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية على السواء بالنسبة الى معاملات التجار والإرث والديون والدعاوى والشكاوى. وبالرغم من ذلك، فإن العديد من دعاوى المسيحيين المحقة والشرعية ضد المدعى عليهم من المسلمين كانت تنتهي إلى قرارات القاضي الشرعي بالوقوف إلى جانب المدعي المسيحي نظراً الى احقية دعواه.

وحالة الألفة والتشابه بالعادات والتقاليد بين أهل بيروت رغم تعدد طوائفهم دفع الرحالة الأديب محمد بيرم التونسي إلى وصف مشاهدته للواقع الإجتماعي في بيروت عام 1880 بقوله: ” إن أهالي بيروت وإن كانوا قسمين مسلمين ونصارى، لكنهم جميعاً في غاية الألفة مع بعضهم البعض، وعوائدهم جميعاً واحدة حتى في محاسن أخلاقهم. وقد شاهدت من فضلاء القسمين ما أشكرهم عليه من محاسن الأخلاق”.

وهذا التشابه والتلاحم بين أبناء وأهل بيروت، شكل حالة نموذجية من الإندماج والتكامل فيما بينهم، التي ظهرت معالمهما على مختلف أوجه ومجالات الحياة الإجتماعية والإقتصادية والمهنية والسكنية. فغالبية الأسواق والأحياء والمهن والحرف في بيروت كانت تاريخياً تجمع وتضم أبناء الطوائف الإسلامية والمسيحية على قاعدة الإنخراط والتعايش المشترك. وخير شاهد على ذلك وجود المساجد والكنائس في المنطقة الواحدة، بحيث تقرع أجراس الكنائس وفي الوقت الذي يرفع الآذان من مآذن المساجد في مشهد عفوي يعبر عن وحدة المجتمع البيروتي.

وهذا النمط الإجتماعي والسلوكي، كان من الطبيعي أن يدفع البيروتيين على إختلاف معتقداتهم الدينية ان يشاركوا بعضهم البعض في مناسباتهم وأعيادهم الدينية للإعراب عن روح الأخوة والمحبة التي تجمع شملهم، تعبيراً عن وحدتهم في أبهى مظاهرها الوطنية.

وأصدق تعبير عن مشاركة الطوائف لبعضها في المناسبات الدينية، كان يتجسد خلال شهر رمضان المبارك. فكان المسيحيون يراعون خلال هذا الشهر إخوانهم المسلمين ويحترمون مشاعر صومهم، فلا يبدون مظاهر إفطارهم على الإطلاق أمامهم، بل يتجنبون ويمتنعون عن تناول الطعام والشراب والتدخين أمامهم، إحتراماً منهم لحرمة الصوم وحرصاً على عدم إحراج الصائمين، خصوصاً في الأماكن العامة والمؤسسات والشركات والدوائر الرسمية. وعلى هذا المنوال لم يكن ممكناً تفريق الصائم من المفطر على الإطلاق، بل أن أجواء رمضان كانت تخيم على كل أجواء العاصمة من دون إستثناء.

كذلك كان العديد من المسحييين في الماضي يشاركون المسلمين صيامهم، فيمسكون عن الطعام والشراب أيام عديد من رمضان، للتعبير عن تواصلهم معهم في عاداتهم وتقاليدهم بما فيها الدينية، تأكيداً على إندماجهم في إطار إجتماعي واحد.
ومن العادات الرمضانية التي كانت سائدة أيضاً أن يدعوا المسلمون أصدقاءهم وجيرانهم من المسيحيين لمشاركتهم مآدب الإفطار، أو أن يقيم المسيحيون مآدب إفطار في رمضان لدعوة إخوانهم المسليمن إليها وسط أجواء مفعمة بالألفة والمحبة والإحترام، وذلك ترسيخاً لعلاقات الأخوة الوطيدة التي كانت تربط العائلات البيروتية بعضها ببعض.
****
فبقدر ما كان المسلمون ينتظرون شهر رمضان بكل فضائله وخيراته، كان المسيحيون ينتظرون قدومه للمشاركة في تقاليده وعاداته الإجتماعية المحببة والمألوفة كتبادل الزيارات وإحياء سهراته وتذوق مأكولاته ومشروباته وحلوياته المميزة والخاصة به والتي لا تتوافر إلا خلال الشهر الكريم، إضافة إلى تعبيرهم عن بهجتهم وسرورهم بالحالة الرمضانية التي كانت تكتسي بها الشوارع والساحات ولدى مشاهدتهم للمسيرات الكشفية والشبابية التي تجوب شوارع بيروت على أنغام الأناشيد الموسيقية وعلى ضوء المشاعل والفوانيس المتلألئة بأنوارها المشعة.

فبيروت إذن المشهود لها بإنفتاحها ورحابتها كانت خلال شهر رمضان المبارك تعبّر عن قمة أصالة وإنصهار أهلها عبر إندماجهم في إطار إجتماعي موحد يجسد أبهى معالم الوحدة الوطنية من خلال إلتزامهم بعادات وتقاليد رمضان بصدق عن روح الأخوة التي كانت تجمعهم.

السابق
انتخاب الرئيس مسألة تتصل بـ’الأمن الحضاري’ بعد الموصل
التالي
سباق ضد الزمن