عن الإنشاد الديني والمنشدين

الإنشاد والمديح الديني لهما مكانتهما الخاصة ونكهتهما الساحرة في ليالي شهر الرحمة والبركات. فالنوم كان يخاصم جفون الصائمين الذين كانوا يذوبون في حضرة مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع تلك الاصوات الشجية التي تهز القلوب خشوعاً ورهبةً وتملؤها نفحات روحية وإيمانية، تقربهم من الله سبحانه وتعالى.

كان الغناء المنتشر في شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي هو الحداء المعروف الذي يأخذ إيقاع مشي الإبل‏، وفيه ارتفاع بالصوت لكسر وحشة الصحراء‏،‏ ولما بزغ نور الإسلام لبست الموسيقي ثوبا دينيا ناصعا يوم سرت تلاوة القرآن الكريم بالصوت الجميل في أنفس الناس سريان العافية في الجسم السليم‏.‏
كان الأمر في بداية صدر الإسلام مقصورا في الأهم على اللحن الحسن في ترتيل القرآن الكريم والأذان للصلاة وصلاة العيدين والتكبيرات وإنشاد الشعر‏.‏

شعر المديح
يذهب كثيرون من المؤرخين إلى ربط ذيوع فن المدائح النبوية بالتصوف، لكن الثابت تاريخيا أن العباس بن عبدالمطلب امتدح النبي عليه الصلاة والسلام فى مطلع الدعوة مشبهًا لحظة ولادته صلى الله عليه وسلم بالنور يغمر الأفق:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن فى ذلك الضياء وفى النور وسبل الرشاد نخترقُ
وشعر المدح فن قديم، فقد عرفه الشعراء وتقربوا بواسطته إلى الحكام، قلة منهم أبدعته بنية صادقة، فيما اتخذته الكثرة تكسبا وتملقًا لمن ينثر عليهم الذهب، وهذا النوع من المديح يندرج ضمن الأغراض الدنيوية للشعراء، ولا تفوتنا الإشارة إلى أن ما يقال عند وفاة الحاكم لا يندرج ضمن المديح وإنما فى إطار الرثاء، وبهذا يفترق شعر المدح بمعناه التقليدى عن المدائح النبوية التى قيلت فى الرسول الكريم حيًّا وبعد انتقاله عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى، فضلا عما تتسم به المدائح النبوية من صدق النية والروحانية، واستلهام الشاعر معانيه من القرآن الكريم والسنة والسيرة، وتتخذ الصورة فيه طابعًا روحيًا رمزيًا.
أول أنشودة
نلمس هذا الجانب الروحى فيما أنشده أهل المدينة المنورة وهم يستقبلون الرسول عليه الصلاة والسلام وقد آتى إلى مدينتهم مهاجراً:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا ياخير داع
فوجود المدائح النبوية إذن أسبق من وجود الصوفية، إذ قاله الشعراء من الصحابة من أمثال حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة، بل إن الشاعر الجاهلى الأعشى الذى مات ولم يسلم، مدح الرسول عليه الصلاة والسلام بقصيدة مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وعادك ما عاد السليم المسهدا
وفيها يتغنى بالرسول قائلا:
متى ما تنوخى عند باب ابن هاشمٍ
تريحى وتلقى من فواضله يدا
نبى يرى ما لا ترون وذكرهُ
أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا
قصيدة “البردة”
وتعد قصيدة كعب بن زهير التي عرفت باسم “البردة”، لأن الرسول ألقي بردته على قائلها، لأنهاأشهر المدائح النبوية التي قيلت، وفيها يقول كعب: إن الرسول لنور يستضاء به…مهند من سيوف الله مسلول
ولا تنافس بردة كعب في شهرتها سوي بردة البوصيري( ت697)، التي سميت أيضا البردة، واعتبرها كثير من الباحثين الأنموذج الأمثل للمدائح النبوية، ورآها آخرون جزءا لا يتجزأ من السيرة النبوية، حيث تقع في عشرة فصول استهلها الشاعر بالغزل والبكاء علي الأطلال، ثم انتقل للتحذير من هوي النفس، وتبع ذلك بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، والحديث عن مولده ومعجزاته وإسرائه ومعراجه، فحديث عن شرف القرآن الكريم ومدحه، وذكر جهاد الرسول، واتخاذه صلي الله عليه وسلم مدخلا للتوسل لله تعالي، وتختتم بمناجاة للرسول الحبيب وعرض حاجات الشاعر.
فهي ليست فقط مديحا ولكنها أيضا تتضمن أبوابا من السيرة المطهرة، ودروسا في كرم شمائل الرسول عليه الصلاة والسلام وخلاله الطيبة، ومطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جري من مقلة بدم
وفيها يقول:
محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجي شفاعته
لكل هول من الأهوال مقتحم
كانت بردة البوصيري مادة خصبة للانشاد‏،‏ وحتي عصرنا هذا‏،‏ وأيضا بردة كعب بن زهير بن أبي سلمي وأشعار الامام البرعي الى ان كتب عمر بن الفارض المولود في مصر‏(1181‏ ‏)‏ أشعار الصوفية فأصبحت منبعا أساسيا لكل المنشدين الذين جاءوا بعده والي يومنا هذا.

المنشدون الآن نوعان‏،‏ نوع يحاول ان يعيد الشكل العربي الأساسي للانشاد الديني‏،‏ الذي يعتمد علي اشعار البوصيري وابن الفارض‏،‏ وأيضا ماكتبه متصوفون آخرون .

أما النوع الثاني فهم المنشدون من تلاميذ مدارس المولوية التركية‏.‏
في عام ‏1273‏ ميلادية‏،‏ بعد ان ظهرت في الوجود الامبراطورية العثمانية الموسيقى في حلقات الذكر ومع الدراويش الذين كانوا يشكلون الطرق الصوفية من قبل معتمدة في الذكر على الموسيقي والغناء‏،‏ وقد أسست الامبراطورية العثمانية معاهد خاصة لذلك في إسطنبول وكانت الفرق الموسيقية تصاحب المولوي من عازفين ثلاثة علي آلات الناي والطبل والقيثارة أو عازف ربابة وعازف ماهر‏.‏
وفي عصر الدولة الفاطمية تغلغل الأتراك في شئون مصر وظهرت أثارهم في كل ألوان الحياة ومنها الاحتفالات التي كان الفاطميون أول من أقاموها في مناسبات لم يكن يحتفل بها‏،‏ ومنها ميلاد الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم وغيرها من الأعياد‏.‏
وقد ظهرت آثار مدرسة المولوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فكان الشيخ الذي يقرأ القرآن الكريم بصوت جميل هو في الوقت‏ نفسه،‏ أستاذ علم المقامات في الموسيقي العربية‏،‏ وأوزانها الايقاعية‏،‏ وهكذا كانت المدرسة التقليدية للتعليم الموسيقي في مصر هي مدرسة المشايخ وأهدافها التعليمية تلاوة القرآن الكريم بعبارات وأنغام غير موزونة إيقاعيا تلتزم قواعد علم قراءات القرآن الكريم وتجويده‏،‏ وتربية أصوات المقرئين والمنشدين علي أداء حركات الألحان الموروثة وأداء الانشاد المصاحب للذكر في الحضرة الصوفية واداء القصائد والموشحات وارتجال الموال الديني الخاص بالمدائح النبوية‏.‏ وفي اطار هذه الجلسات ظهر كبار المقرئين وأيضا كبار الفنانين المصريين في القرن التاسع عشر حتى ظهرت أم كلثوم‏.‏

أهم المنشدين
وقد تزعم بعض المشايخ امثال احمد الياسرجي وخليل ومحرم والشيخ المسلوب حلقات الذكر والانشاء‏،‏ وتتلمذ عليهم مشاهير المغنين لتظهر ما يعرف بمدرسة المشايخ في الغناء العربي، ومن نجومها سلامة حجازي وعبده الحامولي ومن بعدهما احمد وندا ومحمد سالم العجوز ودرويش الحريري وإسماعيل سكر وعلي محمود وعلي عبد الباري ومحمد السبع، ثم الشيخ أبو العلا محمد ويوسف المنيلاوي وأم كلثوم وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وزكريا احمد وسيد مكاوي‏.‏ ثم ظهرت طائفة من المنشدين والمبتهلين الذين لم يجمعوا بين الإنشاد الديني والغناء العادي‏.‏

وكان منشدو الموشحات الذين يحيون الليالي الرمضانية يتمتعون بصوت قوي، جميل وساحر تهتز له القلوب خشوعاً، حيث كان المنشد يتوسط الحلقة ويلتف حوله مجموعة “السنيدة” او “المذهبجية”، وكانت الموشحات في هذه الفترة تغنى مع مصاحبة آلات موسيقية، حيث كان المنشد يبرز براعته وموهبته في التنقل بين المقام الاصيل ومشتقاته وقدرته على إبراز الزخارف اللحنية.
والإنشاد الديني له دوحة كبيرة من الاصوات العظيمة التي تمثل جواهر مضيئة في فن الإنشاد وغالبيتهم من مشايخ وقراء الأزهر الشريف، وأبرزهم: محمد عثمان، داوود حسيني، زكريا احمد، سيد درويش، عبده الحامولي، كامل الخلعي، ابو العلا محمد، علي محمود، عبد اللطيف البنا، سلامة حجازي، ومحمود صبيح وغيرهم الكثير…

الغناء الديني
وفي فترة لاحقة استحدث لون جديد، هو وليد تجربة القصائد والاناشيد هو “الدعاء الديني، الذي كان يغنى بالفصحة وبالعامية، ولا يزيد على خمس دقائق، ليكون جرعة روحانية مكثفة.
وبعد” الدعاء الديني” ظهر لون جديد من التطور يعرف ب”الغناء الديني” الذي تميز بطابعه الشعبي ويعتمد على دراما قصصية في شكل غنائي وصفي، بهدف استخراج العظات والعبر للسامعين.
وكان لهذا النوع من الإنشاد الديني الفضل في تخريج دفعة كبيرة من ذوي الأصوات الجميلة المتحكمة والبارعة وعلى رأسهم: الشيخ محمد الطوخي والشيخ طه الغشني والشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ ياسين التهامي والشيخ محمد الحلباوي وغيرهم.
ولم يقتصر التغني بشمائل رسول الله صلي الله عليه وسلم علي الشعراء المسلمين ولكنه تعداهم إلي شعراء ليسوا علي دين الإسلام، نرى شاعرا مسيحيا هو( الشاعر القروي) رشيد الخوري، يشارك في المدائح النبوية وينشد في ذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم:
عيد البرية عيد المولد
له في المشرقين والمغربين دوي
فإن سألتم رسول الله
فبلغوه سلام الشاعر القروي

 

السابق
حرب في غزة.. انتفاضة في الضفة
التالي
السفير الايراني يسلم مساعدات للفلسطينيين في المخيمات