غزة بعد الثورات العربية

الألم هو نفسه، كذلك الغضب والسخط. انها ردود فعلنا الفورية، الدورية، على أنهار الدم والدمار السائلة في غزة. يصعب في هذه اللحظات تبريد العقل، ولجم العواطف الفوارة، وحجب صور العائلات المُبادة، والمقارنة بين خفّة “نقْزة” الإسرائيليين على صوت صاروخ، وغلظة جرف الفلسطينيين نحو الموت الجمعي.

ولكن لحظة: على الرغم أن المشهد مكرّر للمرة الثالثة، على الأقل في التاريخ القريب، بعد عدواني 2009 و2012، فقد تغير شيء ما في محيطه المباشر، لا يمكن إغفاله وسط ضجيج الموت الغزاوي. حصلت ثورات، أصابت كلا المحورين، “الممانع” وغير “الممانع”، في صميم نظريتهما السياسية: قيادة المحور الأول، “المقاوم” لإسرائيل والإمبريالية، إيران، دخلت على خطين جديدين: سحق الثورة السورية، حماية النظام التابع لها، وبدماء تتجاوز تلك المهدورة في فلسطين، ثم التقارب مع تلك الإمبريالية عبر مفاوضات كانت سرية بداية، وها هي الآن تلاحق خواتيهما. لم تعد “الساحة” الفلسطينية عنده ذات أولوية إلا بالقدر الذي تخدم سحق المعارضة والتقارب مع الأميركيين. في لبنان مثلاً، حيث تتحكم قيادة المحور “الممانع” بمستقبل البلاد، عن طريق “حزب الله”، الموالي لإيران، يتعاون هذا الحزب مع الأجهزة الأمنية للبحث عن مطلقي الصواريخ ضد إسرائيل كرد على غزة؛ ذلك ان هذا الحزب منكب منذ ثلاث سنوات على محاربة الشعب السوري، وهو الآن منشغل بالاشتباك مع المجموعات السورية المسلحة على الحدود الشرقية مع سوريا.
من جهة أعداء المحور “المقاوم”، ليست الأمور بالأيسر حالاً: كانت حجتهم إن السلاح غير مجد، لا يحقق نتيجة، وانه سوف يفضي عاجلاً أم آجلاً إلى هيمنة حمَلَته على مجمل الحياة المدنية، ويصبغ عليها سمات العسكرة، أي القمع وتوابعه. ولكن مع الثورة السورية، تجاوبوا مع مروحة واسعة من الرجال الذين حملوا السلاح ضد بشار الأسد، ومن بعده ضد نوري المالكي، إسلاميين، جهاديين، معتدلين متطرفين، طائفيين، مذهبين، علمانيين، ليبراليين؛ لكل منهم طرفه المفضل، لكل منهم عتبه على التخاذل الأميركي بعدم تسليح الطرف الذي يرضى عنه، أو التباطوء القاتل في التجاوب مع طلباته بأسلحة نوعية. لذلك فان قسطا وافراً من موقفهم من “حماس” بصفتها تنظيماً
مسلحاً قد سقط، بعدما كان المأخذ عليها إنها حاملة السلاح بوجه إسرائيل.

 

تعميم القتل على مساحات عربية واسعة، في ما يشبه الحرب الأهلية الداخلية، الباردة أو الساخنة، وكذلك قوافل النازحين والبؤساء والقتلى والجرحى في سوريا والعراق واليمن وليبيا، التي لن تنتهي قبل عقود، حولت الدم العربي، ومنه الفلسطيني، إلى مادة غزيرة رخيصة. فإذا كان الممانعون يقتلون أبناء هذه الشعوب، وإذا كان خصومهم يصلبون ويعدمون ويذبحون من دون حساب، فلماذا لا يتساوى الفلسطينيون معهم؟ براميل بشار، عقوبات “داعش” البربرية، وتجاوزات مسلحي المعارضة السورية وأخواتها… الجرائم ضد الإنسانية العربية-العربية تفوّقت على إسرائيل بأهوالها وكثافتها، بحيث بدت الشعوب العربية وكأنها محكومة باستعمار “وطني”، محلي، أقل رحمة من الإستعمار الإسرائيلي.. فيما كسر الحدود الوطنية منح إسرائيل حرية أكبر في الإستيطان والتوسع وعدم إحترام الحدود القائمة الراسية منذ مئة عام؛ فما بالك بحدود 1967، التي قبل بها الفلسطينيون، ولم تجد في إسرائيل إلا المزيد من التنصّل بوعود وإتفاقيات إعادتها وبناء الدولة الفلسطينية عليها؟
حالة الحرب العربية على تخوم إسرائيل خلقت كيمياء حربية، قد تكون واحداً من حوافز العدوان الإسرائيلي على غزة. الحرب كوباء معدٍ ينتشر بلا سبب عقلاني. وإلا فما هو مبررها، تلك الحرب؟ غير تعفّن عملية السلام… أي تعمّم الحرب؟ هي المحاولة الإسرائيلية الثالثة للإنقضاض على “حماس” وترسانتها الصاروخية، والجوية مؤخراً، ومع ذلك لن تكسب سوى هدنة طويلة أو قصيرة، ثم عودة رابعة… طالما ان الحروب الأهلية في المحيط سوف تطول… بحيث أن مطلب السلام لم يعد يعني ذاك الذي نصبو إليه مع إسرائيل فحسب، وإنما سلام عربي عربي أيضاً، أو هدنة طويلة تسمح للشعوب “المحتلة” كلها أن تأخذ نفَساً قصيرا في لجة تاريخها المتفجر هذا.

 

السابق
غزة وحيدة.. تقاوم ولا تستسلم
التالي
نقص الحيوانات المنوية يهدد بريطانيا!