هل فشلت الثورة السورية؟

لم تعمّر الثورة السلمية السورية زمناً طويلاً، فلم تمض أشهر قليلة حتى بدأت معالم العسكرة تشق طريقها بقوة إلى صفوفها. لا يعود ذلك بطبيعة الحال إلى سلوك النظام الأمني ومن ثم العسكري على الرغم من أهميته، فهذا من نافلة عمل الأنظمة الشمولية، وإنما أيضاً لغياب منظرين وقادة للجموع الثائرة من جهة، ومحاولة تمثل بعض التجارب العربية من جهة ثانية.
ومع ذلك، ظل جزء من السوريين متمسكاً بالعمل السلمي. هكذا ظلت التظاهرات تخرج أيام الجمعة حتى بداية عام 2013 إلى أن انتهت بشكل تام مع انزياح آخر أصاب واقع الثورة بسيطرة مسلحين من جنسيات غير سورية على المشهد الميداني، وما رافق ذلك من عمليات إجرامية وخطاب شعبوي أدلج الدين وأجّج المشاعر الطائفية، في خطوة صبت في مصلحة النظام الذي سيّس الطوائف منذ بداية الأزمة.
بكل الأحوال، أدى هذا الواقع الجديد إلى انهيار منظومة العمل المعارض الوطني بشقيه السلمي والمسلح، وانهارت معه مفاهيم الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة والدولة المدنية ودولة القانون التي لأجلها ثار السوريون.
والأهم من ذلك أن جزءاً كبيراً من السوريين بدأ يبتعد عن حاضنة الثورة بعد هذه الأهوال وبدأ يظهر منظرون معادون للثورة ومؤيدون للثورة المضادة على مختلف مشاربهم، وهذا أمر طبيعي في مراحل الثورات العنيفة التي تنزلق إلى مسارب قد تؤدي إلى زعزعة المنظومة الاجتماعية- الاقتصادية وتهدد كينونة الإنسان وصيرورته الاجتماعية.
حدث هذا في معظم الثورات العالمية. هل علينا التذكير بهذا النقاش على مستوى النخبة الفرنسية غداة الثورة الكبرى نهاية القرن الثامن عشر بين الديموقراطيين المدافعين عن الثورة والمحافظين الرافضين لها ممثلين بمجموعة من المفكرين أبرزهم إدموند بيرك الذي شن في كتابه «تأملات حول الثورة في فرنسا» هجوماً عنيفاً على الثورة ومفكري التنوير الذين نصبوا العقل فوق التقليد والفرد فوق المجتمع والحقوق الفردية فوق الحقوق الجماعية ووحدوا بين الأمة والشعب بطريقة ثورية.
إن أحد أخطاء الثورة السورية أنها تحدثت باسم الشعب كرد فعل مضاد ومواز في القوة للسلطة التي ماهت نفسها بالإرادة العامة للشعب بالقوة، وقد نشأ عن عملية التماهي هذه من طرفي الأزمة تحويل الشعب إلى متعال سياسي، وباسم هذا المتعالي تم تأسيس وشرعنة أي عمل من أجل تحقيق أهداف الشعب. هنا تصبح الثورة العنيفة مساوية لاستبداد الأنظمة وطغيان السلطة، وهي الإشكالية التي وسمت بداية الثورة الفرنسية وما زالت تسم الثورة السورية إن أصبح من الإمكانية العلمية استمرار وصفها بالثورة.
ليس كل عنف يؤدي إلى ثورة وليست كل ثورة تنتهي إلى النموذج الديموقراطي الليبرالي، لأن ما يمكن أن يبدو مفيداً في مرحلة أولى قد يؤدي إلى نتائج ضارة جداً، والعكس صحيح. لقد أثبتت التجارب التاريخية أن نقاط البداية لا تحدد المسار اللاحق للتحديث بحسب ما بيَّن المفكر بارينغتون مور في تحليله للأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية.
ومع ذلك، لا يكون من الحصافة القول إن الثورة في سورية فشلت والنظام نجح، فهذا توصيف غير دقيق للواقع ولعجلة التاريخ. صحيح أن العنوان الرئيسي للصراع الآن لم يعد معادلة ثورة- نظام، لكن أي حل للأزمة السياسية السورية لا يصح بالمقابل من دون العودة إلى هذه الثنائية، فالاستمرارية الاجتماعية والسياسية العميقة تجري من تحت الاضطرابات الثورية، ودلالة ذلك حدوث تغييرات سياسية مهمة وإن كانت الأحداث قد تجاوزتها، أو بعبارة أخرى لم تكن هذه التغيرات تعكس الواقع وتستجيب له وتجيب على أسئلته، لكنها مع ذلك لها دلالاتها التاريخية وتأثيرها في أعماق الصيرورة الاجتماعية السياسية في المستقبل القريب أو البعيد وإن كانت تبدو مسكونية وعديمة التأثير:
– الإصلاحات السياسية التي اعتمدها النظام في بداية الأحداث عبر إلغاء المادة الثامنة من الدستور ثم تعديل الدستور في مرحلة لاحقة وسن قانون للأحزاب، وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت مجرد فورات تنظيرية غير قادرة على تغيير الطابع العام للبنى السياسية والاجتماعية، إلا أنها ذات أهمية كبيرة، لأنها المرة الأولى التي يضطر فيها النظام منذ عقود إلى إجراء إصلاحات تحت ضربات الشارع.
– ظهور حركات وأحزاب سياسية وإن كان بعضها من صناعة النظام، لكن هذه الحركات والأحزاب أصبحت جزءاً من المجتمع المدني لأنها خارج ثنائية القوة والربح وإن كانت السياسة غاية عملها، ويمكن اعتبار هيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة (معارضة) وبعض الأحزاب (الموالية للنظام) من جهة، والحركات الاجتماعية ذات المضمون الإغاثي من جهة ثانية، عنوان المجتمع المدني الجديد في سورية. لقد بدأ ينشأ حيز عام منفصل عن الدولة.
– الانتقال لأول مرة منذ عقود من صيغة الاستفتاء إلى صيغة الانتخابات التعددية، وهذا تطور مهم على رغم الصيغة الديموقراطية الكاذبة التي حاولت هذه الانتخابات إظهارها. قد تعني الانتخابات في مرحلة تاريخية استبداد الأغلبية («الإخوان المسلمين» في مصر وتدخل الجيش بقيادة السيسي)، وفي حالة أخرى إحياء للبنى ما قبل المدنية (ليبيا) وفي حالة ثالثة إعادة إنتاج النظام لنفسه (سورية)، لكن كل هذه الحالات تؤكد أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام وإن بأشكال وأثمان مختلفة. هل يمكن التذكير بأن مجرد طرح مرشح آخر بجانب الأسد كان خارج المجال التداولي للعقل السوري طوال عقود. ألم تبدأ الحداثة الأوروبية بالحكم المطلق، ومع ذلك كانت ثورية لأنها أسست هذا الحكم على عقد اجتماعي وليس على حق إلهي؟
في كتابه «المجتمع المدني دراسة نقدية» جادل عزمي بشارة أثناء مناقشته أفكار الفيلسوف الإسكتلندي آدم فيرغسون، على أهمية الشكل الديموقراطي أكثر من المبدأ الديموقراطي، فقد بينت تجارب القرنين الماضيين أن جوهر الديموقراطية ليس مبدأ كامناً وراءها وإنما جوهر الديموقراطية هو شكلها ذاته، فكم من دولة التزمت بالمبدأ وداست على الشكل.
لقد سقط النظام السوري بالمعنى الشرعي والقانوني، وأي محاولة للبقاء لن يكتب لها النجاح، وقد بين الفيلسوف الألماني الكبير إريك هوبسبام أثناء دراسته الثورات الأوروبية، أن محاولة الأنظمة في البقاء ستنتهي إلى الفشل، لأن الأنساق السياسية التي يمكن فرضها تتناقض مع الظروف السياسية القائمة تناقضاً عميقاً في مرحلة التغيير الاجتماعي والواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية، اللهم إلا إذا استطاعت هذه الأنظمة تغيير ذاتها بما يواكب التغيير الذي أصاب فضاءات السلطة الاجتماعية الجديدة.

السابق
التتويج!
التالي
بشار الأسد.. والقسم الكاذب