مصر: الإعلام بين الغوغائية والمسؤولية الاجتماعية

أناقش في ما يلي مشكلة الإعلام المصري المرئي والمقروء، والتي استفلحت في الشهور الأخيرة لأن الغوغائية سادت خطاباته المتعددة، في غيبة شبه كاملة للمسؤولية الاجتماعية التي ينبغي أن يتحلى بها الإعلاميون.

الذي دفعني لتحليل أزمة الإعلام الراهنة سقطات إعلامية كبرى تناولت ثلاث قامات مصرية سامقة الاولى هي الرئيس السيسي، والثانية هي الأستاذ محمد حسنين هيكل، والثالثة هي عائلة الرائد التنموي العالمي نجيب ساويرس.

عودة جنرالات المقاهي!
عقب هزيمة حزيران 1967 تبارى عدد من المواطنين الفارغين في تحليل الموقف العسكري بين مصر وإسرائيل وتفرغوا وهم جالسون في المقاهي لشرب الشيشة لرسم الخطط العسكرية الكفيلة بهزيمة إسرائيل بضربة واحدة ساحقة! ومن فرط تفاهة هذه الأحاديث العشوائية اصطلح الكتاب الصحافيون في هذه الحقبة على إطلاق اسم جنرالات المقاهي على هؤلاء الجهلة الذين يمارسون إطلاق الفتاوى الاستراتيجية في أهم ما يمس الأمن القومي، بغير معرفة وبدون تقدير لخطورة عملية صنع القرار في أمور السلام والحرب.
تذكرت حكاية جنرالات المقاهي لأنه عقب العدوان الإسرائيلي الإجرامي على غزة طالعنا أحد مقدمي البرامج التلفزيونية المشهورين صائحاً ممارساً عاداته في الصياح التليفزيوني مخاطباً الرئيس السيسي بدون أدنى مبرر قائلاً: أطفال غزة الذين ماتوا في رقبتك يا سيسي! وهذا كلام غوغائي غير مسؤول لأن مصر منذ عام 1948 حين دخلت الحرب ضد العصابات الصهيونية دفاعاً عن فلسطين لم تتخلف أبداً عن تأييد ومؤازرة الشعب الفلسطيني.
غير أنه لم يكتف بذلك ولكنه أضاف معلقاً على عبارة الرئيس السيسي الشهيرة التي قالها معبراً عن دور مصر في حماية أمن دول الخليج، “عند أول بادرة ستجدوننا مسافة السكة”، قائلاً لماذا لم يقل السيسي ذلك بالنسبة لغزة؟ وكان الإعلامي الغوغائي يحرض السيسي لكي يشن الحرب على إسرائيل دعماً لـ”حماس”!
ما حدث في الواقع عودة غير حميدة لأسلوب جنرالات المقاهي القديم كان أولى بهذا الإعلامي أن يترفع عنه وإن كان هذا صعباً عليه بالذات، لأنه اشتهر بخطابه الشعبوي المتردي، وبمخالفاته الجسيمة لأخلاقيات الإعلام.

محاولة فاشلة
والسقطة الإعلامية الثانية لافتة للنظر حقاً وداعية للأسف الشديد، لأنها صدرت عن كاتب صحافي معروف له إنجازاته الصحافية، غير أن التوفيق خانه بشدة لأنه – لأمر ما- قرر أن يقوم بمحاولة يائسة لاغتيال شخصية الأستاذ محمد حسنين هيكل! ولسنا في حاجة إلى سرد التاريخ الحافل للأستاذ هيكل وهو من رواد الصحافة العربية العظام الذين صعدوا السلم من أوله، وأصاب شهرة ذائعة منذ بداياته الصحافية المبكرة أيام كان يغطي الحرب الكورية والحرب الأهلية اليونانية وثورة مصدق، والتي أصدر بصددها كتابه الشهير “إيران فوق بركان”.
هيكل كاتب صحافي من طراز فريد يمتلك أسلوبا أخاذا عرف به، وله رؤية حضارية عميقة، ويتمتع بقدرة فكرية فذة تسمح له بالتحليل الاستراتيجي المتعمق. وهو ليس مجرد كاتب صحافي ولكنه مؤرخ سياسي من طراز فريد، ولديه ثروة من المستندات والوثائق، وأطلع على أسرار القادة والزعماء، ونشر عشرات الكتب التي ترجمت إلى عديد من اللغات الأجنبية، وأصبحت من أهم المراجع في التاريخ الحديث لمصر والعرب.
روّج الكاتب المعروف لمحاولته الفاشلة في اغتيال شخصية هيكل بحكاية عديد من القصص المزيفة والمفبركة في مقالات عدة في جريدة يكتب فيها، هي بمثابة إعلانات غير مدفوعة الأجر للكتاب الفاشل الذي سيصدره.
الغريب أن هذا الكاتب يعلم مقدماً أن سهامه الجارحة ستطيش ولن تمس شعرة من هيكل، لأن هناك اعترافاً مصرياً وعربياً وعالمياً بقدراته الفذة، ولعل العبارة التي صاغها أنطوني ناتنج وزير الدولة للشؤون الخارجية في وزارة انطوني ايدن عن هيكل أعمق تقويم لسيرته الصحافية والفكرية المبهرة حين قال عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه.

النقد المغرض
حملة صحافية رخيصة قامت بها إحدى الكاتبات الصحافيات ونشرتها في جريدة تحترف أساليب وفنون الابتزاز الصحافي، وجهت هذه المرة ضد أسرة مصرية عصامية جاءت من الصعيد الجواني الذي أغدق على مصر عبقريات متفردة من رفاعة رافع الطهطاوي رائد الفكر الحديث إلى طه حسين عميد الآدب العربي. هذه الأسرة هي أسرة ساويرس، والتي تمثل امتداداً رائعاً للتراث القبطي المصري الأصيل الذي يغوص في أعماق الوطنية المصرية. وثورة 1919 شاهدة على زعامات الأقباط المنيرة الذين شاركوا مع إخوانهم المسلمين في الثورة، وامتد هذا التراث إلى مكرم باشا عبيد القطب القبطي السياسي اللامع الذي كان يحفظ القرآن الكريم ويستشهد بآياته في خطبه الشهيرة.
عائلة ساويرس يمكن أن نطلق عليها اسم العائلة التنموية الأولى في مصر!
الأب هو أنس ساويرس الذي أسس مجموعة أوراسكوم، وأولاده هم المهندس نجيب الذي طغت شهرته الأفاق بعد أن أصبح رائداً عالمياً للتنمية، وأشقاؤه هم ناصيف وسميح.
منذ أن انضم نجيب ساويرس عام 1979 لمجموعة أوراسكوم التي تضم شركات عائلته ساهم مساهمة فعالة في تنويع نشاط الشركة لتصبح اليوم أكبر مؤسسات القطاع الخاص في مصر وأكثرها تنوعاً.
قامت شركة أوراسكوم بإنشاء المصانع المنتجة، وتولى نجيب ساويرس قيادة قطاع الاتصالات، واستطاع بعبقرية فذة أن يحصل على عقود بالغة الأهمية في عديد من البلاد الأوروبية والعربية، مما جعل منه رائداً لامعاً في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ولكن لأن نجيب ساويرس ليبرالي أصيل لم يتوانَ عن دعم التيارات الليبرالية السياسية والفكرية في مصر بطرق مباشرة وغير مباشرة، وساهم في إصدار جريدة “المصري اليوم”، كما بادر بدعم إنشاء حزب المصريين الأحرار وهو من أهم الأحزاب الليبرالية المصرية.
عائلة ساويرس تمثل الإيمان بالمسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال خير تمثيل.
وقد أنشأت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية، وأسست جائزة مؤسسة ساويرس للأدب المصري تمنح سنوياً لأبرز المبدعين المصريين.
أما نجيب ساويرس النجم اللامع للأسرة فبالإضافة إلى رئاسته لعديد من الشركات توج عالمياً باعتباره من رواد التنمية وحصل على أوسمة عالمية متعددة.
ولو تركنا هذا التاريخ التنموي الحافل جانباً فإن أهم ما يميز عائلة ساويرس أنها عائلة قبطية مصرية أصيلة تلعب دوراً أساسياً في التنمية المصرية، وسيكون لها دور بارز في النهضة المصرية المقبلة.
وهي لذلك لا يضيرها النقد المغرض ولا الابتزاز الصحافي، لأن الحقائق ساطعة والإنجازات بارزة ومسجلة.

السابق
من هوشي منه إلى حسن نصرالله
التالي
شاهدوا اطول امرأة في العالم