الآبار الخاصة تتدفّق وشبكات الدولة تجف

السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن لدى رؤية المياه تتدفق من الآبار الارتوازية لبيعها، هو لماذا لا تملك الدولة مثل تلك الآبار؟ ولماذا نعيش حالة شح في المياه التي تصل من المؤسسات العامة، ولا تشهدها سوق المياه الخاصة؟

تشبه وتيرة بيع المياه من إحدى الآبار في الحازمية خلف «مستشفى جبل لبنان»، عداد الساعة. يتجمع أصحاب الشاحنات الصغيرة حول البئر، ويسجل العامل المشرف على البيع أسماءهم في دفتر خاص كي يبيعهم بالدور. يتجمع أصحاب الشاحنات حول البئر في دوام لا ينتهي إلا عند الإرهاق، ويمتد الدوام من الخامسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً. وبعض أصحاب الشاحنات يعتبر بيع المياه مثل إيرادات الموسم الوفير، يستغلها من أجل تحصيل دخل أعلى قبل مجيء الشتاء. وبعضهم استأجر شاحنات صغيرة إضافية مع صهاريج، وكلّف بها أحد العمال، كما استأجروا عمّالاً لمساعدتهم في تعبئة المياه وتفريغها نظراً للطلب الكثيف على الشراء. مع ذلك، ترن هواتفهم طوال اليوم: نريد المياه.
زادت نسبة بيع المياه سبعين في المئة، يقول المشرف على البئر، ويضيف أن المنسوب تراجع قليلاً عن العام الماضي، بينما بلغ عدد الزبائن من أصحاب الشاحنات لديه ثلاثة وسبعين زبونا، يشتري كل زبون بين خمس وثماني نقلات يومياً، أي نحو تسعين برميلاً. يراوح سعر البرميل بين الفين وأربعة آلاف ليرة، استناداً إلى بعده عن البئر. ويتسع كل برميل لمئتي ليتر. ولكن العائلة تشتري خمسة براميل حداً أدنى. وهناك عائلات تشتري عشرة براميل يومياً. وإذا كانت كلفة عشرة براميل في الحد الأدنى عشرين ألف ليرة، فذلك يعني دفع ستمئة ألف ليرة شهرياً بدل شراء مياه الخدمة فقط. في المقابل، تبلغ كلفة كل نقلة مياه عشرة آلاف ليرة بدل بنزين معدلا وسطيا، وبعد حسم أجر العامل وكلفة البنزين، يبقى معدل الربح اليومي لصاحب الشاحنة مئة ألف ليرة.
سوء استخدام
يتفق الخبراء والمسؤولون في وزارة الطاقة والمياه على أن لبنان يملك احتياطاً من المياه، لو تم استخدامه بالحد الأدنى لوفر المسؤولون على الناس هذا العذاب، لكن استقالة المسؤولين من المسؤولية، جعلت الأزمة تتفاقم إلى هذا الحد، وبدل مطالبتهم، يقوم الناس بحل مشاكلهم على حسابهم الشخصي، يشترون المياه والكهرباء من مصاريفهم الضرورية. ومن المعروف أن لدى وزارة الطاقة والمياه خططاً للمياه كلفت مئات الألوف من الدولارات. ولكن، في النهاية، لم يجد المسؤولون سوى حلين لمواجهة أزمة الشح، هما: ترشيد استخدام المياه، وشراء المياه من تركيا. وهي آخر المهازل، لكن يتم اقتراحها بوصفها الحل الأكثر سهولة، بينما الأردن البلد الذي لا يملك مياهاً استطاع تنظيم المياه المتوافرة لديه.
أما الحل العملي الوحيد الذي أعلنته مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، فهو وضع بئرين جديدتين في الخدمة، وحفر خمس آبار جديدة ضمن مشروع السبع آبار، سوف توضع في الخدمة تباعاً.
ويقول الخبير في المياه الجوفية الدكتور سمير زعاطيطي إن «المياه الجوفية متوافرة في لبنان، لأن ثلاثة أرباع مساحته هي جبال من الصخر الكلسي الكربوناتي وتسمى الكارست، وتلك الطبيعة شبيهة بالطبيعة في يوغوسلافيا، لذلك جاءت تسمية الكارست من يوغوسلافيا». يضيف أنه «إذا تم احتساب نسبة المتساقطات في لبنان مقارنة بمساحته تكون لدينا نسبة مياه كبرى. وفي هذه الحال فإن المياه الجوفية لا تتأثر كثيراً بسنة جفاف واحدة، لكن التأثر يحصل لدى استمرار سنوات الجفاف».
ويوضح أن «كلفة حفر الآبار الجوفية أقل بكثير من السدود، لكن المعنيين يريدون السدود لأنهم ينتفعون منها مادياً».
ويشرح زعاطيطي أن هناك مثلثا جيولوجيا حول بيروت يمتد من المرفأ حتى رأس بيروت ومن رأس بيروت إلى خلدة تقارب مساحته الستين كيلومتراً مربعاً، وفي داخله هضبة بيروت حيث لا مياه جوفية. لذا ومن منطلق البحث عن مخازن جوفية قريبة من العاصمة، قام بجمع المعلومات المفيدة عن الآبار المحفورة في المخازن الصخرية الكلسية العائدة لعصري الكارستي والجوراسيك المحيطة بالعاصمة، ودراسة الكسور الأرضية الكبيرة الضاربة لهذه المجموعات الصخرية، وذلك من أجل معرفة اتجاه سريان المياه، وتجمع المياه الجوفية. وقد تكونت لديه بحكم المتابعة قناعة علمية واضحة بوجود منطقة قريبة من العاصمة تعتبر من الناحية الجيولوجية والظروف الهيدرولوجية مناسبة لاستثمار المياه الجوفية العذبة، وبكميات كافية تسد حاجات بيروت على المدى البعيد.
شريعة الغاب
تتغذى بيروت حالياً من المخزون الجوفي في الدامور والناعمة وضبية، بينما تتغذى الضاحية من الشويفات وعين الدلبة والآبار الارتوازية التي يحفرها المواطنون شخصيا، مع أنه لا يحق للمواطن حفر بئر خاصة والبيع منها. وهنا يقول الخبير في المياه في «الجامعة الأميركية» الدكتور هادي جعفر إن «الدولة قصرت في إيجاد الاحتياط الاستراتيجي، وإذا أردنا إدارة قطاع المياه إدارة صحيحة، يجب أن يكون لدينا تخزين مياه من أجل الزراعة والصناعة». ويسأل: «من أين مياه الصهاريج التي تباع للناس إذا كان لبنان يعاني من الشح؟ هل هي مستوردة؟». ويجيب: «قطعاً لا».
ويروي جعفر أن شخصاً من منطقة جل الديب زاره منذ فترة قريبة، يريد حفر بئر ارتوازية لبيع المياه، فسأله إذا كان قد حصل على ترخيص لأن وزارة الطاقة منعت التراخيص، فرد الشخص: «عم نزبطها». يضيف: «لم نصل إلى مرحلة نقول فيها لصاحب البئر ممنوع ضخ هذه الكميات من المياه لأنه لا عدادات على الآبار، كما تتم سرقة المياه من الشبكات. إذاً ليست المسألة في عدم سقوط المطر، بل في عدم تحمل مسؤولية تأمين المياه للمواطنين».
ويلفت جعفر إلى أنه حصلت سنوات جفاف، ولم يتأثر الناس بهذه الطريقة. يتابع: «نفكر دائماً بمياه الاستخدام المنزلي، لكن المشكلة الرئيسة هي في مياه ري المزروعات». ويؤكد أنه في بعض المناطق يمكن الاتكال على المياه الجوفية، وفي بعضها الآخر يجب بناء السدود. ويشير إلى أن تحلية مياه البحر تكلف في دول العالم أربعين سنتاً للمتر المكعب، أي ما يوازي أقل من نصف دولار. وفي دولة مثل السعودية تعيش في الصحراء تستخدم السدود لإعادة تغذية المياه الجوفية.
ويرى جعفر أنه قبل الحرب الأهلية كانت تعد دراسات جدية، أما اليوم فإن الدولة تتغاضى عن مسؤولياتها، والطريقة التي تدار بها المياه تشبه شريعة الغاب.

 

لجنة الجفاف
لم تؤخذ تقارير وزارة الطاقة والمياه عن وسائل معالجة الشح في الاجتماعات الرسمية التي عقدت لمعالجة شح المياه. ويبدي المدير العام للوزارة فادي قمير استغرابه من اقتراح استيراد المياه من تركيا. ويقول إن الوزارة أعدت تقريراً عن وسائل معالجة الشح منذ شباط الماضي، وأرسلته إلى مؤسسات المياه ووزارات الزراعة والبيئة والداخلية ومجلس الوزراء، لكن أحداً لم يهتم به. وجاء في التقرير أن معالجة الشح تتطلب حفر آبار جديدة وتجهيزها بالمضخات والمولدات، وتمديد شبكات لها، بالإضافة إلى تنظيف آبار موجودة وتعميقها، وتأمين ثمن المحروقات لمولدات الآبار بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وطلبت الوزارة تأمين مبلغ ستة وأربعين مليار ليرة موزعة على الشكل الآتي: ستة عشر مليار ليرة لمؤسسة مياه لبنان الجنوبي، وثلاثة عشر مليار ليرة لمياه لبنان الشمالي، وتسعة مليارات لمؤسسة مياه البقاع، وثمانية مليارات لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان.
يضيف قمير أن لجنة الجفاف التي شكلت في حينها خلصت إلى إعداد خطوات عملية بسيطة وقصيرة المدى ولا تتطلب سياسات وخططاً، وتقضي تلك الخطوات بالتنسيق مع شركات تعبئة المياه المعترف بها من أجل تزويد المواطنين بقارورات مياه للشرب بأسعار مخفضة خلال أشهر تموز وآب وأيلول، واستعمال مستوعبات لتنقية المياه حسب ما هو معمول به في فرنسا في حالات الجفاف تعتمد على تنقية المياه ويتم وضعها على الشواطئ لتحلية مياه البحر أو مجاري الأنهر والآبار، ووضع يد الدولة على الآبار الخاصة لتنظيم عملية توزيع المياه على المواطنين بطريقة عادلة وبأسعار مخفضة، وتأهيل شبكات مياه الشفة والري والخزانات والمحاقن، والتنسيق مع المصارف لتسهيل حصول المزارعين على قروض ميسرة لاستبدال أنظمة الري التقليدية، بالأنظمة الحديثة كالري بالتنقيط أو الرش، والتنسيق مع الجـــهات المانحة لتمويل حمــــلات ترشيد وتوعية على استهلاك المياه للحاجات المنزلية والزراعية والصناعية.
وتتضمن الخطوات أدواراً للوزارات المعنية، وأولها وزارة الزراعة في توجيه المزارعين نحو اتباع أساليب الري الحديثة، والتخفيف قدر الامكان من كمية المياه، وتطويل فترة الري إلى أقصى حد ممكن، والتحول قدر الإمكان إلى الزراعات البعلية وعدم حراثة الأرض والتخفيف من زراعة الخضار، بالإضافة إلى إنشاء برك طبيعية في مناطق جريان المياه، والتشجيع على استخدام المياه الرمادية لري المساحات الخضراء والحدائق العامة.
وفي دور وزارة الصناعة، الطلب من المصانع عدم رمي النفايات الصناعية في الآبار الجوفية ومجاري الأنهر وأقنية السيلان، ومراقبة استهلاك المياه لدى المصانع الكبرى، وتشجيع استخدام المياه الرمادية.وفي دور وزارة البيئة، ترشيد استهلاك المياه عبر ت طبيق المرسوم الالزامي البيئي للمنشآت، وإجراء دراسات تدقيق بيئي للمؤسسات، وإعداد إرشادات بيئية عامة لترشيد استهلاك المياه في المنازل وفي الري، وإعداد خطة إدارية لمكافحة تلوث مياه الليطاني وبحيرة القرعون.
ولا تنفصل تلك الخطوات عن الخطط المتوسطة والبعيدة المدى، التي تقضي بإنشاء السدود والبحيرات، وخطوط صرف صحي لحماية مصادر المياه من التلوث، وشبكات جر المياه المعالجة لإعادة استخدامها في قطاع الري، وتقضي ببناء خطوط كهربائية لتشغيل المنشآت المائية، وتشجيع استخدام المياه الرمادية واستخراج المياه من الينابيع البحرية وتغذية الطبقات الجوفية.
ويذكّر قمير بالخطة العشرية التي أقرت في العام 2000 وأرجئت إلى العام 2010، ثم أرجئت إلى العام 2018، ولم يبن سوى سد شبروح، بينما يجري العمل حالياً بسد اليمونة. ولكنه لم يشر أبداً إلى الاستراتيجية التي تبناها مجلس الوزراء في العام 2012.
إلا أن مصادر بيئية كانت قد تحفظت على الخطط العشرية وعلى استراتيجية الوزارة القائمة بشكل رئيسي على إنشاء السدود السطحية لتخزين المياه، لا توافق قمير الرأي. وتلفت إلى أن سد شبروح بقي شبه فارغ هذا العام (أقل من النصف) وهو معرض للتبخر (بنسبة 50%) والتسرب ولن يفيد كثيراً في مثل الأزمة التي حصلت هذا العام، بالرغم من كلفة إنشائه العالية، وقد كان على وزارة الطاقة أن تعتمد على خطط مختلفة تساهم في تعزيز التخزين الجوفي بدل إنشاء السدود السطحية المكلفة، ولكانت المياه الجوفية هي الخزين الاستراتيجي لمثل هذه السنة الشحيحة بالمتساقطات.

السابق
كلب يتصور «سلفي» مع رفيقه
التالي
خطاب القسم للأسد اليوم؟