غوغائية الخطاب الفلسطيني

عند محاكمة الخطاب الفلسطيني المرافق للحرب الحاصلة الآن ، علينا أن ننتبه في البداية أننا في حرب ، حرب حقيقية، والذين نخسرهم هم قتلى حقيقيون لهم أهل وعائلات وبيوت وحيوات خصبة، ولسنا في مدرجات كرة القدم !
وعلينا أن ننتبه أن حصّة أهل غزة في الحياة، أو حقهم ، مساوٍ تماماً لحقّنا وحصّتنا، وأن الخطاب الذي يقول بأنهم كانوا سيموتون على كل الأحوال بصواريخ وبدون صواريخ، وأن حياتهم الفقيرة في غزة هي والموت واحد وليس لديهم ما يخسرونه (!!) هو خطاب فاشيّ وغير انساني بالمرّة . ولا يقيم وزناً لأرواح الناس، بل يتعامل معهم كمندوبين عنه، يمثلونه في المعركة ويموتون نيابة عنه، فيما يرتع هو في حياته ويكتب شِعراً ركيكاً في دمهم الفاقع !
وينقسم الخطاب السائد الآن في الإعلام و “مدرجات” الفيسبوك الى نوعين :
القسم الأول هو العاطفي الساخط الناقم ، المتدفق من مخزون وطني حميم وصادق، وهو بوح ومناجاة لا يملك الضعيف سواهما، وهو أمر متفهم تماماً، حيث لا يملك الجمهور دائماً في الحرب غير لغته، ويشترك في ذلك مع كُتّاب يجدون في هذا الموت فرصة لتنمية مشاريعهم الأدبية، فيندفعون لكتابة أكبر كمٍّ ممكن من المعلّقات قبل أن تنتهي الحرب ! ويصير هنا ممكنا تمرير الكثير الكثير من الأدب الرديء بحجة فلسطين، وبذريعة الانفعال وسخونة الموقف !
القسم الثاني هو الجمهور الهائل والحاشد من المحللين العسكريين والسياسيين الذي ينجبهم الظرف فجأة، والذين لا يجاريهم أحد في حجم التحليل وسوق المعلومات الغريبة، والذين يبثون أخبارهم بشكل متواتر وعاجل كما لو أنهم مراسلون من ساحة المعركة.
وهناك الكثير من الناس الذين يمارسون “النوعين” بثقة وإقدام !
عودة إذاً للخطاب نفسه ؛ لنتساءل : لمن يوجَّه الخطاب الفلسطيني ؟! من المنطق والحكمة أن نقول أنه ليس موجها للفلسطينيين ولا للعرب والمسلمين؛ فهؤلاء ليسوا بحاجة بعد مئة سنة من النضال أن نعرّفهم بالحق الفلسطيني، وهم أصلاً شركاء في الدم والأرض والجذر والهوية، وخطاب الضحية يجب أن يوجَّه للخارج وليس لأهل البيت. بل يجب على خطابنا أن لا يكون باللغة العربية أصلاً.
فالخطاب الإنشائي الذي نكتبه لنخاطب به الفلسطينيين والعرب هو خطاب بائس يسعى لاستعراض عضلاته اللغوية وتشدّقه بمشاعره الوطنية، ولا جدوى منه، حيث اولويات الخطاب الفلسطيني ( والعربي معاً) هي المجتمع الغربي والدولي الذي يجب أن لا نملَّ من مخاطبته والضغط عليه وإقناعه ونقل صورة ما يحدث الى أروقته، بمستوياتها الإعلامية والاجتماعية والسياسية والشبابية .
فالذين يجلسون على منصات الصواريخ ليسوا بحاجة تصفيق ولا يقرأوون الفيسبوك، والذين استشهدوا لن ينفعهم الغزل الركيك، وأهل غزة آخر ما يحتاجونه الآن هو الشِعر والبيانات.
وعلى ذلك؛ ولكي نخاطب المجتمع الدولي، والإعلام الغربي، علينا أن نكفّ عن صناعة صورة البطل لأنفسنا ليل نهار ، الصورة التي تروّج بين الناس بأن ضباط العدو يجلسون في مدرعاتهم مذعورين من قوتنا وبأسنا، وأن صواريخنا لم تترك بيتاً ولا شارعاً في الجليل والمثلث الا دكَّته، وأن اسرائيل تخفي عدد قتلاها، وبيوتها المدمرة، أو ان نروّج فيديوهات غريبة عن رعب الصهاينة وذعرهم من صواريخنا !! لماذا نطلب نجدة العالم إذاً ؟!! لماذا نتهم العالم بالتخاذل إذا كنّا بهذه الوتيرة التي نزعمها سنحرر فلسطين في غضون أسبوعين !
لمصلحة من نضع أنفسنا موضع المنتصر ونصنع لنا صورة الشعب “السوبرمان” الذي لا يبكي ولا يقهر ولا يضيره مقتل العشرات في بيتٍ واحد ؟!
لمصلحة من يقول البعض اننا لم نستخدم بعد شيئاً من قوتنا (!) وأن الحرب البرية ستكون نهاية جيش اسرائيل (!)، لماذا نبدو كمن يتوسّل هذه الحرب ويستدرجها ؟ لماذا نقلّل من شأن دمنا وانسانيتنا وكأن أهل غزة مجرد مقاتلين لا يصلحون للحياة مثلنا ؟!!
ألم نقل هذه الديباجات من قبل في حرب غزة الماضية فتركنا العالم نحضّر مفاجآتنا المذهلة المدويّة التي ” ستهزّ اسرائيل” ولم نحصد سوى الهزيمة المرّة !
مَن الذي يسهر ليل نهار على أسطرة الضعيف، على تلفيق جبروت هائلٍ ومختلق للضحية، وهو في نفس الوقت يصرخ شاتماً العالم الذي لا يتدخل !!
لماذا يتدخل العالم لإنقاذك إن كان ضباط جيش العدو يرتعدون منك، ويعودون لدباباتهم مرتجفين ؟!
لمن يوَجَّه هذا الخطاب الممجوج والغبي والذي يساهم في مضاعفة أعداد الشهداء ودمار البيوت ؟
المضحك المبكي والطريف والمفزع أن البعض كان يقول إن المستوطنين الثلاثة قتلوا في حادث سير ثم استغلَّتهم اسرائيل لتقول أننا قتلناهم ، هذا البعض نفسه يقول اليوم ان اسرائيل تخفي قتلاها الذين قتلتهم صواريخنا وتقول أنها وفيات عادية بحوادث سير ! . وعليَّ كي لا أتَّهم بالخيانة أن أصدِّق هذا البعض في الحالتين !
حسناً سأصدِّقه ؛ ولكن ماذا عن الإعلام الغربي وكيف يترجم هذه الرواية ؟!
..
في المحصِّلة نحن ضحايا خطاب فلسطيني غوغائي وركيك ومسطَّح؛ سواء على صعيد السلطة والحكومة ، أو على صعيد الشارع الذي يريد أن يكون ضحيةً وبطلاً بذات الوقت . حيث العقلية الشعبية المغرمة بالأسطورة والمشبعة بقصص الكرامة وعزة النفس تأبى عليه الاعتراف بكونه ضحية مغلوبة على أمرها، ويفضّل صورة البطل ولو كان ثمنها هذه الفاتورة الضخمة والمرعبة من الشهداء والقتلى .. !

السابق
نتنياهو: لن يمنعنا أيّ ضغط دولي من ضرب الإرهابيين
التالي
مصادر لـ ‘القبس’: شريعة الغاب هي التي سيطرت على جلسة الحكومة الخميس