بديل عسكري لأزمة الديموقراطية والحرية

ساهم الدور الذي لعبه الجيش المصري في ازاحة الرئيس محمد مرسي وتولي المشير عبد الفتاح السيسي الرئاسة، وكذلك أنشطة اللواء خليفة حفتر في ليبيا، إلى جانب الانقلاب الذي حصل في أيّار (مايو) في تايلاند، في إطلاق الحديث حول الظاهرة التي كان كثيرون يأملون أنها أصبحت ظاهرة غير ممكنة التنفيذ، عندما يخرج رجل من صفوف الجيش ليعتبر نفسه أنّه منقذ الوطن. وترتبط التفسيرات التي يعطيها العالم العربي لإعادة إحياء هذه الممارسة القديمة بالانتفاضات الشعبية التي بدأت خلال شهر كانون الثاني (يناير) 2011 وبصعوبة إشراك الشعوب التي تمّ حشدها سياسيّاً في محاولات لخلق نظام سياسي جديد ومتعدّد الأحزاب. بينما بالنسبة إلى أولئك الذين يلجأون إلى المقارنات التاريخية، كانت الإجراءات التي اتخذها عدد من قادة الجيش تتماشى مع أحداث من التاريخ الفرنسي عندما قام الجنرال نابليون بونابرت في العام 1795 بتطهير شوارع باريس، بعد أن نفد صبره جرّاء انغماس الجماهير في ما اعتبره مؤيدوه نوعاً من أنواع حكم الغوغاء.
ولكن ليست هذه هي الحال في تايلاند، حيث كان الانقلاب الذي حصل في أيّار (مايو) بقيادة الجنرال برايوت تشان أوتشا هو الثاني عشر منذ إلغاء الملكية المطلقة في البلاد في العام 1932. وقد كان الجيش منذ فترة طويلة متورّطاً في نزاع مع حزب يقوده أعضاء عائلة شيناوات الثرية التي شارك مناصروها الذين يتميّزون بقدرتهم على تنظيم صفوفهم في احتجاجات متكرّرة ضدّ التأثير الناجم عن تدهور الوضع الاقتصادي الذي ادعى الجيش أنّه يزيد الوضع سوءاً.
إلا أنّ ثمّة جوانب عدّة للتدخل العسكري في السياسة التي تعتبر عالميّة بالفعل، على الأقل في ما يتعلّق بالبلدان غير الأوروبية، بما أنّها مرتبطة بالثقافة العسكرية للضباط الذين ينتمون إلى الجيوش التي ليس لديها أعداء خارجيون تحاربهم. ومن بين هذه الجوانب، نذكر الاستبداد الغريزي لأولئك الذين يعيشون في ثكنات بمنأى عن السكان المدنيين. أمّا جانب آخر، فهو حرصهم على حماية مصلحة عسكرية يتمّ تحديدها من حيث الجمع بين اعتمادات الميزانية وقيمتها.
وتُعتبر اللغة المستخدمة في هذه المنطقة مفيدة ولا سيّما تلك التي تستخدم لتحديد ما يعتبره قادة الجيش سلوكاً ديموقراطياً سليماً، فهم من جهة يميلون إلى تصنيف السياسيين المدنيين كمستفيدين من عملية الفوز بأكثرية أصوات الناخبين، وهو ما يسمح لهم بالتصرّف كما يحلو لهم، بما يشمل استفادتهم الشخصية واستفادة أنصارهم من موارد الدولة. ومن جهة أخرى، يُعتبر معظم الناخبين، ولا سيّما أولئك الذين يتمتّعون بأصول فقيرة وريفية، أشخاصاً لا يمكن الثقة بقدرتهم على التصويت بطريقة عقلانية، نظراً إلى أنّهم بحاجة إلى التعليم والتوجيه. وهذا ما أدّى إلى ظهور نزعة شعبية من جديد في مصر، بحيث تندفع الناس إلى صناديق الاقتراع لانتخاب منقذ عسكري. وفي هذا السياق، ظهرت في تايلاند إجراءات مشدّدة على مظاهر الاحتجاج، لأنه، وبحسب ما قاله المتحدث باسم الجيش، «إذا ما تركت الناس يتحدثون فستكون لهجتهم ممزوجة بالعاطفة، وسيكونون شديدي الانتقاد».
من المعروف أنّ الجنود يميلون إلى العيش بعيداً من المجتمع المدني، أي في ثكنات عسكرية. وهم يخضعون لنوع من الانضباط غير المدني الذي يتلقّون بموجبه أوامر من السلطات النافذة على أن يطيعوها بشكل فوري. ولا تقتصر نتيجة ذلك على تعزيز ثقافة النظام والدقة، بل على نشر ثقافة تفرض على أولئك الذين يخلقون الفوضى والصعوبات الامتثال للقوانين أو مواجهة عواقب تأديبية عنيفة. لذلك، يقال عن جمال عبد الناصر وزملائه العسكريين في مصر إنّهم بعد أن قاموا بالانقلاب في تموز (يوليو) 1952 افترضوا، بطريقة أو بأخرى، أنّ مواطنيهم سيتوقّفون أمام الإشارات الحمراء أثناء القيادة في الطرقات أو أنهم سيسيرون بعناية على الأرصفة، ليتفاجأوا بأن الفوضى ظلّت تعمّ الشوارع أكثر من أي وقت مضى. إشارةً إلى أنّهم عجزوا هم وكل من خلفوهم عن تغيير هذا الوضع.
وفي ما يتعلّق بافتراض أن الجهاز العسكري قادر على إجبار الناس على قبول نوع من الديموقراطية الحسنة السلوك التي يعتقد قادة الجيش أنّها تناسب مصلحتهم، لا بدّ من ذكر عبارة استفزازية صدرت عن الكاتب المسرحي الألماني والمحرّض الشهير، برتولد بريشت، بعد الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في شرق برلين في العام 1953، إذ قال انه يعتقد أنه قد يكون أسهل للحكومة بدلاً من إدانة المتظاهرين، أن تلغي الشعب وتستبدله بشعب آخر.
وعلى الرغم من كلّ عيوبهم، إلا أنّ هؤلاء هم القادة الذين سيتولون قيادة عدد من الدول العربية على المدى البعيد، فهم رجال عسكريون تحصّنوا ضدّ الانقلاب، رجال عسكريون يخشون أن يتركوا مناصبهم خشية أن يتّهمهم الناشطون الدوليون في مجال حقوق الإنسان بارتكاب جرائم شنيعة ضدّ الإنسانية. وهم أيضاً رجال عسكريون يفتقرون إلى المهارات اللازمة للنهوض بالمؤسسات، وتشجيع الاستثمار الأجنبي أو خلق فرص عمل عبر أي وسيلة أخرى غير زيادة عدد الوظائف في دولة بيروقراطية لا تستوعب المزيد من الموظفين. ومن المؤسف أنّه كما قال نابليون بونابرت، يمكنك أن تستخدم الحربة للقيام بأي شيء ما عدا الجلوس عليها. وهذه كانت طريقته في تسليط الضوء على نقطة أساسية وهي أنه من المستحيل التوصّل إلى الاستقرار، والمناقشة، وتعزيز الاختلاط الاجتماعي اللازم لممارسة الديموقراطية بشكل سليم، في ظلّ قيام حكم عسكري.
والحقّ أنّه من المستحيل تطبيق إجابة نابليون نفسه على هذه المعضلة -التي دفعت الشعب الفرنسي إلى الحرب- في العالم العربي حاليًّا، على الرغم من أنّ بعض الأشخاص قد يعتقدون أن هذا المخرج ما زال متاحاً وان بشكل أخفّ، إذ إنه يتّخذ شكل ما يُسمّى بالحرب على الإرهاب أو الحرب على تهريب الأسلحة والمخدرات. ولكن هذا لا يشكّل مصدر راحة بالنسبة إلى الملايين الذين يحتاجون إلى سكن أفضل ومدارس أفضل، والأهم من ذلك كلّه، أولئك الذين يأملون في تحقيق مستقبل أفضل.

السابق
ارتفاع حصيلة ضحايا النزاع السوري الى أكثر من 170 ألفاً
التالي
أحد مطلقي الصواريخ جريح والجيش يبحث عنه