غزة تحت النار

من جديد غزة تحت مرمى النيران، فقد عادت الطائرات الحربية الإسرائيلية تغير على أهدافٍ مدنية وعسكرية في قطاع غزة، فتقتل الأطفال والشيوخ والنساء، وتنال من المدنيين الآمنين العزل، في محاولةٍ أخرى للنيل من صمود وثبات الفلسطينيين، ظانةً أنها ستكسر إرادتهم، وستحطم كبرياءهم، وستجبرهم على الخضوع والخنوع، والاستسلام والقبول، وستتمكن هذه المرة من تغيير موازين القوى، وشطب معادلة الرعب التي فرضتها المقاومة الفلسطينية، والتي جعلت العمق الصهيوني كأطرافه، وشماله كجنوبه، تطال صواريخها كل مكانٍ فيه، وتصل إلى كل هدفٍ تحدده، فما عادت القدس بعيدة، ولا تل أبيب عصية، ولا شمالها محصنٌ أو آمن.

قطاع غزة لن يكون من جديد تحت مرمى النيران الإسرائيلية، فهو لن يصعر للعدو وجهه، ولن يسمح له بأن يستبيح أرضه وسماءه من جديد، ولن يدفع مواطنوه الثمن وحدهم، بل إن المقاومة الفلسطينية سترد على العدو بالمثل، ناراً بنار، وصواريخاً بصواريخ، واجتياحا باجتياح، وسترهبه بذات السلاح، وستواجهه بنفس القوة، وستصد كل محاولاته لاجتياحه والنيل منه، ولن تكون أرضه للعدو سهلة، ولا رماله رخوة، ولا الاعتداء عليه نزهة، بل ستكون أرضه سبخة، تغوص فيها أقدام جنوده، وتغرق في وحول المقاومة، ورمال غزة الثائرة. إنها الحرب الثالثة التي يعلنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة في أقل من عشرة سنوات، وفي كل مرة تدك طائراته أرض القطاع، وتدمر مساكنه ومبانيه، وتخرب شوارعه وطرقاته، وتعيث فيه فساداً، وبعد أيامٍ تكتوي فيها بنار ردود المقاومة، فتستصرخ مصر والولايات المتحدة الأمريكية والعالم، ليدخلوا على خط المعركة، ويتوسطوا لدى المقاومة، لتوقف إطلاق الصواريخ، وتقبل بهدنةٍ جديدة، وبشروطٍ أخرى، لتزف إلى شعبها ومواطنيها تباشير الهدنة، ليتمكنوا من الخروج من ملاجئهم، واستئناف حياتهم، والعودة إلى مزاولة أعمالهم. فهل يتكرر السيناريو نفسه، ويعيد التاريخ أحداثه، ويرفع الكيان الصهيوني بعد أيامٍ صوته، يجأر ويصرخ، وقد فشلت مخططاته، وسقطت أهدافه، واكتوت أطرافه، واحترقت بناره ثيابه، فيعود إلى الهدنة القديمة أو يجددها، أو يقبل بأخرى جديدة، يلتزم فيها بشروط المقاومة الخمسة، التي لا أرى أنها ستتراجع عنها، أو ستقبل بأقل منها، فهي ليست ضعيفة ولا خائفة، ولا مترددة ولا مستعجلة، ولكنها مقاومة بحق، ومدافعة عن حق. إنه قدر الفلسطينيين أن تكون الكثير من معاركهم مع العدو الصهيوني في شهر رمضان المعظم، وأن يتزامن الاعتداء الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة مع الذكرى الحادية والأربعين لحرب العاشر رمضان المجيدة، التي كانت نصراً عربياً جماعياً، وهزيمةً إسرائيلية موجعة، ليكون ذلك بشارة خيرٍ لهم، ودلالة نصرٍ ينتظرهم، إذ ما دخل العرب والمسلمون حرباً في شهر رمضان، قديماً أو حديثاً، إلا كتب الله لهم النصر فيه، ومكنهم على أعدائهم، وأثلج صدورهم بنصرٍ من عنده، يتنزل عليهم عزةً وكرامة. رغم الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في شهر رمضان الأطول منذ ثلاثة عقود، والشديد القيظ والمرتفع الحرارة، في ظل الحصار الشديد والقاسي المفروض على قطاع غزة، والذي يحرمهم من نعم الحياة، ومن مستلزمات العيش البسيطة، ليس أقلها انقطاع التيار الكهربائي، ونقص الوقود والمواد الغذائية والأدوية وغيرها مما يلزم كل الناس، فضلاً عن حجز الرواتب، ومنع توزيعها على مستحقيها، الأمر الذي ضاعف من معاناة الغزيين في شهرهم الفضيل، وهو الذي تلزمه نفقاتٌ إضافية، واستعداداتٌ خاصة. إلا أن العدو الصهيوني أبى إلا أن ينغص عليهم شهرهم الفضيل، وأن يحرمهم من متعة الاستمتاع بطقوسه، فكان عدوانه الغاشم، واعتداءه الظالم على قطاع غزة حرباً وقصفاً، وعلى الفلسطينيين عموماً في الضفة الغربية والقدس والأرض المحتلة عام 48، تضييقاً وملاحقة، واعتقالاً وقتلاً، إلا أنه في حقيقة أمره خائفٌ وجلٌ من هذا الشهر، وهو قلقٌ من عزم المسلمين فيه، وعظم صبرهم وشدة بلائهم، وتنافسهم على الجهاد والشهادة.

نسأل الله العلي القدير ونحن في عشر الرحمة، الفرج والعافية، وأن يكلأنا برعايته، وأن يحمينا بقدرته من بطش الكيان وغول اعتداءاته، وأن يجعل معركة الفلسطينيين مع عدوهم في شهر رمضان، كمعارك بدرٍ وحطين وعين جالوت وأكتوبر، فينصرهم على عدوهم رغم ضعفهم، ويأخذ بأيديهم رغم قلة سلاحهم، ويمكنهم منه على الرغم من قوته وسلاحه، ومن بغيه وغطرسته وكبريائه. لا شئ في الشارع الإسرائيلي يدل على الطمأنينة والسلامة، والثبات والثقة، والاحساس بالأمن، فقد دب الفزع والخوف في قلوب الإسرائيليين جميعاً دون استثناء، فثلاثة ملايين إسرائيلي أصبحوا في دائرة الخطر، وتحت مرمى النيران، وباتوا يتأهبون للنزول إلى الملاجئ والأقبية، بحثاً عن الأمان، وهروباً من قصف الصواريخ، واحتمالات تسلل عناصر المقاومة خلف خطوط النار، ومباغتة الإسرائيليين في معسكراتهم وبلداتهم، وقد سكن الخوف نفوسهم حتى أصبحوا يظنون أن كل صيحةً عليهم. أما صافرات الإنذار الإسرائيلية فقد نشطت من جديد، واستعادت عافيتها، وبدأت أصواتها تعلو وترتفع، ويصغي إليها الإسرائيليون بخوف، بينما هم يتراكظون نحو الملاجئ، أو إلى شققٍ سكنية في الطوابق السفلى من البنايات، علماً أن أصوات الصافرات تسمع في القدس وتل أبيب والخضيرة، كما كانت تسمع في أسيدروت وأوفاكيم وعزاتا ونتيفوت وبئر السبع وغيرها. الخوف والرعب وصل هذه المرة إلى صالات مطار اللد، وحل الخطر على مدرجات الطائرات الرابضة، وتلك التي تحلق صعوداً أو هبوطاً، الأمر الذي أجبر المسؤولين الإسرائيليين إلى إلغاء رحلاتٍ، وتأجيل أخرى، في الوقت الذي طلبوا فيه من المسافرين والعاملين ترك الباحات والصالات المفتوحة، والنزول إلى القاعات السفلية، البعيدة عن القصف، والتي تعتبر آمنةً نسبياً بالمقارنة مع الصالات الأرضية المكشوفة.

كثيرٌ من الإسرائيليين الذين كانوا يفرون من الأطراف إلى الوسط، ومن القشرة إلى القلب، وجدوا أنفسهم ومن كان يؤويهم في خطرٍ شديد، إذ لم تعد الأماكن آمنة، ولم يعد للمسافات قيمة، ولم تعد تجدي الحصون والقبب الفولاذية، ولا الصواريخ الاعتراضية، ولا محاولات نقل المعركة إلى أرض الخصم بعيداً عنهم، الأمر الذي دفع الكثير منهم، وهم يعيشون عطلة الصيف، للتفكير في السفر والمغادرة، فراراً بحياتهم، ونجاةً بأنفسهم. أما السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني فقد أصابته لوثة الفزع، وحلت عليه لعنة صواريخ المقاومة، فأصدر أوامره وتعليماته بإغلاق سفارة بلاده، وطلب من موظفيه وكافة العاملين في السفارة التزام بيوتهم، وعدم الخروج منها إلا في أضيق الحدود، وعند الحاجة الضرورية والملحة، كما أصدر توجيهاته إلى المواطنين الأمريكيين المتواجدين داخل الكيان إقامةً أو زيارة، بضرورة توخي الحيطة والحذر، والابتعاد عن الأماكن والبلدات التي من المتوقع أن تقصفها المقاومة الفلسطينية. أما العمالة الأجنبية الوافدة من شرق آسيا وغيرها، فقد هرولوا بسرعةٍ إلى شركات الطيران، لشراء تذاكر وحجز مقاعد للسفر في أقرب الرحلات إلى بلادهم أو غيرها، مخافة أن يقتلوا في هذه الحرب، وكثيرٌ منهم لا ينسى أن بعض العمال التايلانديين وغيرهم، قد قتلوا وأصيبوا جراء تعرضهم لرشقات صواريخ المقاومة في الحربين السابقتين اللتين شنهما العدو الصهيوني على قطاع غزة. إنه رعبٌ يسري، وهلعٌ ينتشر، وخوفٌ يسكن القلوب، ومصيرٌ مجهولٌ ينتظر الكيان الصهيوني، الذي بدأ الحرب، وسبق بالاعتداء، في الوقت الذي يدرك أن جبهته الداخلية مصدعة، وأن مناعته ضعيفة، وأن الروح المعنوية لمواطنيه وجنوده على السواء سيئة ومحبطة، وأن للمقاومة مفاجئات وصولات وجولات، ستكشف عنها الساعات والأيام القادمة.

السابق
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يطلق صيحة(واقدساه .. واغزتاه)
التالي
باسيل الى البرازيل: طبعاً سأحضر المونديال