المسيحيون والهَلع الدائم

أثار بيان افتراضي صادر عن جهة مجهولة تُدعى «لواء أحرار السنة – بعلبك» هلعاً داخل الوسط المسيحي، ما يدلّ على هشاشة الوضع داخل هذه البيئة التي فقدت عصبها وعناصر قوّتها وأصبحت حسّاسة وتتأثر بمجرّد بيان.

تشكّل البيانات والمواقف التضامنية مع المسيحيين تأكيداً وطنياً على إدانة الإرهاب ورفضه، كما تشكّل التفافاً لبنانياً يرمي الى التصدي لمحاولات تفجير الساحة اللبنانية عبر زيادة عوامل التناقض بين اللبنانيين بتطييف الصراع بعد مَذهبته.

وعلى رغم أنّ هذه الهبة التضامنية مطلوبة، إلّا أنّ المغالاة فيها تعكس في جانب معيّن «نظرة شَفقة» تؤشّر إلى مدى هشاشة الوضع المسيحي وضعفه. وقبل مقاربة عوامل الضعف المسيحي، لا بد من التوقف أمام المعطيات الآتية: أولاً، الصراع القائم في المنطقة ليس بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، كما انه ليس بين الصليبيين والمسلمين، إنما بين محورين ومنطقَين،

الأول تتزعّمه إيران ويرمي الى الهيمنة على المنطقة بأسرها وفرض أجندته الحربية على دوَلها وشعوبها، ومحور آخر تتزعّمه السعودية وأولويّته إحلال السلام في المنطقة ومنع التدخل في شؤون الدول العربية وشجونها.

ثانياً، الانقسام بين مشروعين متناقضين تحوّل الى انقسام سني – شيعي لسبب بديهي يتّصِل بطبيعة الدولتين اللتين تتزعّمان المشروعين المذكورين، ما يعني انّ أساس الصراع ليس مذهبياً، إنما حول خيارات كبرى.

ثالثاً، المسيحيون في المنطقة العربية هم خارج الصراع، لأنّ تأثيرهم السياسي معدوم، الأمر الذي يجعلهم خارج دائرة الاستهداف، علماً أنهم مدعوون لتأدية دورهم العربي والوطني في ترجيح خيارات السلام التي تتلاءم مع تكوينهم وطبيعتهم وأهدافهم.

رابعاً، المسيحيون خارج دائرة الاستهداف، وأيّ استهداف لهم يَندرج ضمن ثلاثة احتمالات: أ- إستهداف مُبرمج لهم من قبل محور الممانعة بكلّ مكوّناته عن طريق استخدام قوى أصولية سنية مرتزقة بهدف تشويه صورة أهل السنة وتصويرهم بأنهم إرهابيون، وانّ محور الممانعة يتكفّل بتوفير الحماية لهم، في محاولة قديمة – جديدة لتقديم هذا المحور نفسه بأنه حامي الأقليات، كما تقديم نفسه للغرب بأنه يتكفّل بهذه المهمة. ب- إستهداف مبرمج لدفع المسيحيين الى خيارات انفصالية تمهّد للدولة العلوية في سوريا بعد انهيار فُرَص حُكمها للجمهورية العربية السورية. وفي هذا الإطار برزت مخاوف من التزامن بين التهديدات الوهمية التي أطلقت بحقّ المسيحيين وبين المبادرة العونية، وكأنّ هناك تكاملاً أو استغلالاً لهذه المبادرة بُغية دفع المسيحيين إلى المطالبة بالفَصل حماية لوجودهم. ج- إستهدافهم كمواطنين لا كمسيحيين، إذ انه من البديهي أن يتعرضوا لأعمال قتل وعنف شأنهم شأن سائر المواطنين في سوريا والعراق وغيرهما، حيث يستحيل تحييدهم عن النار المشتعلة، فضلاً عن انخراط البعض منهم في المواجهات إلى جانب النظام، ومثالنا على ذلك ما حدث ويحدث في سوريا. ويبقى أن تأثّرهم أكثر من غيرهم يرتبط بقلّة عددهم. خامساً، العمليات الإرهابية التي استهدفت بيئة «حزب الله» مردّها إلى انخراطه في الحرب السورية، وتزكيته المشاعر المذهبية، وهذا الكلام لا يعني تبريراً لهذه العمليات المرفوضة أساساً، إنما يعكس واقع الحال لناحية استجلاب الحزب النيران السورية الى لبنان، فيما أيّ استهداف للمسيحيين هو من خارج سياق الصراع القائم في المنطقة. سادساً، التشكيلات الإرهابية الأساسية التي تخوض المواجهة مع «حزب الله» ربطت في مختلف بياناتها بين عملياتها وقتال الحزب في سوريا، خصوصاً أنه لم يسجّل أيّ أعمال من هذا النوع قبل خروج الحزب من لبنان.

 

لكلّ هذه الأسباب وغيرها، يبقى المسيحيون غير مستهدفين، ولكن في الوقت نفسه فإنّ الطائفة المسيحية مطالبة بمزيد من المناعة والصلابة، وبأن تخلع عنها رداء الخوف والاحباط وتعيد الاعتبار لوضعها وصورتها التي كانت عليها إبّان مطلع الاحداث اللبنانية، أو أن تتمثّل بالطائفة الشيعية المستهدفة في قلب بيئتها وتستقبل بلداتها عشرات الضحايا أسبوعياً ولم تبدّل في خياراتها واقتناعاتها على رغم الخلاف الجذري مع تلك الخيارات والاقتناعات. فمن غير المسموح استمرار هذا الضعف داخل الجسم المسيحي، أو أن تبقى هذه الصورة حوله، وذلك قطعاً للطريق أمام محاولات استغلاله، إن من خلال دفع المسيحيين إلى تنازلات سيادية أو مشاريع انفصالية أو إلى الحياد، علماً أنّ المسيحيين كانوا السبّاقين إلى إنشاء نظام حر وديموقراطي يحترم التعدد والتنوّع. فقد يكون مفهوماً ومبرراً ما قاسوه إبّان الحرب وما بعدها مِن ضرب وتهميش وملاحقات وظلم وقهر وتهجير وإبعاد، ولكن هذا لا يبرّر إطلاقاً هَلعهم عند كل انفجار واغتيال أو تلويح بحرق الكنائس، خصوصاً أنّ خياراتهم محدودة بثلاثة: الرحيل، الخضوع لمنطق الأقوى أو الاستماتة في الدفاع عن قيَمهم وأهدافهم وثوابتهم التي تتجسّد في قيام الدولة في لبنان. ولذلك، الكنيسة المسيحية، كما أحزاب المسيحيين وقياداتهم مطالبون بضَخّ مزيد من جرعات الثقة بالنفس والمناعة الوطنية والوعي السياسي، ليس فقط من أجل الدفاع عن حقّهم في الوجود أحراراً وآمنين، إنما بغية الدفاع عن قضية اسمها… لبنان.

السابق
برو في اليوم 19 لاعتصامه: غياب المجتمع المدني
التالي
هل نصدّق «رامز قرش البحر»؟