Lost in translation

تنطبق على رئيس الوزراء العراقي الجملة («ضائع في الترجمة»)، التي كانت في الأصل عنوان فيلم رائع لصوفيا كوبولا، فغدت أشبه بتلك الأمثلة التي من فرط كثافتها تستقل عن قصتها الأصلية، عابرة الأزمنة والأماكن، لتلخص حالة بأكملها.
السيد المالكي لا يهمه مما يجري اليوم في العراق سوى السعي في ألاّ يؤدي الحدث الى تهديد بقائه رئيساً للوزراء. تعمر، تخرب… المهم هو أن كتلته «نالت 92 مقعداً في الانتخابات النيابية الأخيرة، والدستور يقول إن صاحب العدد الأكبر من المقاعد هو الذي يُكلَّف بتشكيل الحكومة». واحترام الدستور واجب! هذا ما يردده الرجل في كل مناسبة، ممنياً النفس بأن البرلمان الجديد سيجتمع لتحقيق ذلك «خلال الشهر الجاري»! بينما البلاد تنزلق الى المجهول جارَّة معها المنطقة. هذا ما حاول أيضاً قوله لجون كيري، وزير الخارجية الأميركي، خلال زيارته بغداد قبل أسبوعين ولقائه به… والذي اعتبر ذلك «تفاؤلاً» في غير محله، وظل يكرر مداخلات تحاول تظهير خطورة الموقف، قبل أن ينهر المالكي. وهو ردد كلمة «الصراحة» الواجب عليه اتباعها مرات عدة تلفت الانظار، وحمَّل المالكي مسؤولية وصول الموقف إلى هذا الدرك، وعيّن «بوضوح» (وهذه المفردة أيضاً كررها مرات) أن المشكل يكمن في السياسات الطائفية التي يتبعها رئيس الوزراء العراقي، واضطهاده السنة والكرد، بل نادى برئيس وزراء يمكنه جمع مكونات البلد وبحكومة وحدة وطنية، واستخدم مرات مفهوم حكومة الانقاذ الوطني (الذي لا يرى المالكي ما يبرر اللجوء إليه، فهو لديه الغالبية!)، معتبراً أن الحل العسكري يتبع هذه الأسس ولا يحل محلها.
لكن المالكي كان lost in translation. أراد استغلال الزيارة لرمي مسؤولية ما يجري على سواه، وللظهور كضحية، وأراد تحريض الأميركيين ضد الإرهاب، وأراد استخدامهم وفق مصلحته، مطالباً بضربات جوية (أميركية) لأوكار المسلحين «وإلا وصلوا الى بغداد»، بما يشبه التهديد. وفلتت من لسانه درر من نوع العفو الذي «منحه» لرجال العشائر إلاَّ من تورط منهم بالدم، فذاك «مُلْك ولي الدم» على ما قال، بينما هو رئيس دولة وليس عشيرة، بعدما صار على الموضة إخراج هذه الجملة الجاهلية بمناسبة وغير مناسبة…
ولي الدم إذاً! ثم نطق بدرة أخرى تتعلق بحق الشيعة في كل العالم في الذود عن المقدسات، في معرض دفاعه عن التدخل الإيراني في العراق، ورداً على تحذير كيري منه وقوله إنه مثير للحساسيات والمخاوف، وسيقلب المعادلة. ها الشيعة بنظر رئيس الوزراء العراقي منظومة أو كتلة عابرة للدول والسيادات، مما يتيح بالطبع لسواهم أن يمارسوا العبور والاختراق نفسه الذي يمكنه اتخاذ تسميات شتى… منها «داعش»، والخلافة الإسلامية التي أعلن أميرها عن تأسيسها، وعاصمتها الموصل، داعياً كل المسلمين للهجرة إليها، فـ «لا سورية ملك السوريين ولا العراق ملك العراقيين». منطقان متشابهان ويتكافآن، ودينامية دائرتين تتغذى واحدتهما من الأخرى.
في كل الأحوال، فـ «الضائع في الترجمة» هم أيضاً القادة الإيرانيون الذين يتباهون بمساندتهم ومساعدتهم سورية، واستعدادهم لمساعدة ومساندة العراق أيضاً وبالطريقة نفسها. ولا بد أن العراقيين، المبتلين بعقود متوالية من المآسي الكبرى، قد استعاذوا بالله لدى سماعهم ذلك التصريح، وتحسسوا رؤوسهم وخبأوا أطفالهم في حجورهم.
وأما الضائع الآخر في الترجمة، فالكرد الذين ما زال مسعود البارزاني يتصرف كزعيمهم بينما حلت كتلته ثالثة في منطقتها في الانتخابات النيابية الأخيرة (طالما أن ذلك ما زال مقياساً في بلد تميد فيه الأرض تحت أقدام أبنائها). بل لعل تلك النتيجة المخيفة تدفعه إلى استغلال الحدث الجلل… لقبرها وتجاوزها، والاستمرار في التصرف كزعيم أكبر يقرر مصير جماعته والبلد برمته، عبر ما يراه فرصة سانحة لما يسميه «الاستقلال الوطني» و «تقرير المصير»، الذي لا يؤيده فيه إلا نتانياهو إسرائيل، وتناهضه واشنطن ولندن، حليفاه الرئيسان على مدى العقود الماضية. وتبدو الخطوة بائسة، لن تؤدي سوى إلى المساهمة في تفكيك العراق (الذي يرى البارزاني انه فُكِّك وانتهى والسلام، فعمد إلى قضم حصته)، ولعلها تستدعي للكرد العراقيين فصلاً جديداً من مأساة متصلة هي الأخرى…
وأما «هيئة علماء المسلمين» في العراق فاتخذت مواقف من قبيل أن «الثورة الحالية عراقية بامتياز، وتستهدف الظلم والظالمين». ولأنها ترى في هذا الذي يجري فرصة سانحة للعودة الى الظهور والإفادة، في ميادين شتى! من الأمر، بعد خبو حالها تماماً، ولأن رؤيتها للعالم ومفهوم أصحابها للوطنية يرتكزان إلى عملية الجمع الحسابية لأطراف متنوعة (فيتحقق «تمثيل» الجميع)، وليس إلى تأسيس وإطلاق أو استنهاض دينامية مشتركة متوافق عليها… فهم، علاوة على تحالفهم مع «خليفة المسلمين» البغدادي، صاحب «داعش»، ومع فلول البعث والنظام البائد، يبحثون عن ممثل في «المعسكر الآخر»، أي الشيعي، وقد وجدوه في تحرك السيد الصرخي في كربلاء، الذي يُكلِّمه الإمام المهدي مباشرة، وكان في يوم من الأيام (على ما صرح وقتها) قد أمره بقطع رأسي المالكي ومقتدى الصدر لخروجهما عما يراه الخط القويم. ويستهوي الهيئة انشقاق الرجل عن المرجعية الشيعية وعن إيران. وبهذا المعنى، فهم هنا أيضاً يطبقون مفاهيم بدائية من قبيل «اللهم زِدهم فِرقة» والتي تضمر فعلياً العداء «لهم» كآخر «غريب»، أو هي وفي أحسن الأحوال تتَّبع مبدأ «عدو عدوي صديقي». والخطتان تستندان الى منطق وظيفي بحت، لا صلة له بعملية البناء الوطني.
ولعل استخدام العنوان الذي غدا مثلاً، أي «lost in translation»، هو، على رغم قوته التعبيرية، نافل في حالة العراق. فتاريخ بلاد ما بين النهرين يختزن ما يفوقه بكل المقاييس: كـ «تبلبل الألسن» (والقلوب، بما هي ضمائر ونوايا) الذي عمَّ بابل، وانحفر في الكتب المقدسة، وصار مثلاً يُستخدم في كل لغات الأرض وآدابها، وإلى تعبيرات حديثة، منها تسمية «بابل» التي اختارتها لنفسها «شبكة المترجمين العالميين التطوعيين» المناهضين للمنظومة النيوليبرالية، والذين كانوا من مؤسسي حركة «المنتديات الاجتماعية العالمية» في سياتل ثم بورتو اليغري ثم مومباي وسواها… ما يؤكد ها هنا، ومجدداً، وعلى طريقته، أن العراق كونٌ، وليس كياناً مستحدثاً طارئاً!

السابق
لبنان يقاتل في سورية… من هنا تبدأ ‘داعش’
التالي
مقتل طيار إيراني في العراق