‘يا عمال العالم اتحدوا!’

يا عمال العالم اتحدوا

نستمر في التدريب العسكري بضعة أشهر، تتخللها المهرجانات والتظاهرات والإضرابات الطلابية. ولكننا ننتقل لسبب ما من حلقة إلى أخرى. لا نكاد نتعوّد على المسؤول عن الحلقة، مندوب الخلية، حتى يأتي قرار بانتقالنا، مثل الرحَّل التائهين، لا نثبت على بيت. طوال هذا التجوال المسلّي، أكون دائما مع الرفيقين غسان وسميرة في الحلقة الواحدة؛ صدفة أم قرار من «القيادة»؟ لا أعلم، لا أسأل. التطواف هذا لا يهمّني، بالعكس، أرى فيه تشويقاً وإثارة، ويزيدان من اطمئناني إلى نضالية منظمتنا وجذريتها.

بين حلقة وأخرى، يتبدد اهتمام هذه القيادة بالتدريب العسكري، وكأنها داخلة في مشروع جديد، أو استراتيجية جديدة. وشيئا فشيئا يتزايد الاهتمام بالنظريات والقراءات الماركسية، ويصبح بند «التثقيف» واحد من نقاط جدول أعمال الحلقة، على رأس قائمته. تثقيف مكثف، هو الآخر، متسارع، يقوم على خطوتين: على الرفيق أن يقرأ هذا الكتاب، «المقرّر»، لماركس، أو أنجلز، أو الإثنين معاً، ويأتي إلى الاجتماع قادراً على عرض محتوياته ومناقشتها؛ الحَكَم هو الرفيق المسؤول، الذي يقدر بأن الرفيق قام بواجبه النضالي، أو لم يقم. ويكون، لدى الوصول الى البند الأخير، «النقد والنقد الذاتي»، تأنيباً من الرفيق المسؤول للرفيق الكسول من بيننا، الذي لم يكن على درجة من المسؤولية في القيام بمهامه. عديدون هم الرفاق الذين لا يطيقون قراءة نظريات فائض القيمة ومعاني نمط الإنتاج ووسائله وأداته، أو إعادة قراءة «البيان الشيوعي» من جديد، على ضوء الانكباب المستجد لمنظمتنا على العمال والفلاحين. لذلك يختفون كمن يتبخر، من دون تفسير ولا وداع. نفهم نحن، نريد أن نفهم، بأن هؤلاء الرفاق الهاربين من صعوبة المنعطف الجديد وتضحياته، هم المتخاذلون الذين يسقطون من قطار الثورة الجارف. فتأخذنا الحمية ونثقل أكتافنا بأوزان المهمات الجديدة.

عندما أفتح الصفحة الأولى من «البيان الشيوعي» للمرة الأولى، وقبل انضمامي «رسمياً» إلى المنظمة، يحلّ عليّ ضوء ينير فجأة غرفتي بنار الحقيقة؛ مع أنني لا أفهم منه الشيء الكثير، لكنني مصرة على أحقيته، بكل ألغازه. بعد ذلك أقرأه مرتين، واحدة خارج الحلقة والثانية داخلها. ولكن الآن، مع التمحور الجديد حول العمال، نعيد قراءة «البيان الشيوعي»، ونضعه في مقدمة مواد التثقيف الحزبي. بما انني قرأته قبل ذلك بالفرنسية، عليّ الآن إعادة قراءته بالعربية، لكي أُحسن لاحقا تحريض العمال وتنظيمهم. حالتي ليست خاصة؛ هناك سميرة أيضا، وناديا وروجيه ونديم ورؤوف، وكلهم رفاق تلقوا تعليمهم بالفرنسية، ولا يعرفون العربية إلا شفاهة، وبشق الأنفس. أمام هذه المشكلة، تجد القيادة حلاً: إنشاء حلقة «الافرنج»، حيث يشرف رفيق مسؤول على قراءة البيان في الاجتماع، مع نسختين له، عربية وفرنسية، نقرأ أولاً المقطع بالفرنسية، ثم نعود فنقرأه بالعربية، ويكون ذلك طريقاً لالتقاط التعبيرات التي نحن بحاجة اليها عندما نتوجه إلى العمال بالتحريض المطلوب. لا تطول هذه الحلقة، التي يتخللها ضحك متواصل، يقف المسؤول عاجزاً أمامه، لا يضبطه إلا في نهايته. ولكنني أتعلم أنا فيها الكثير من العربية التي احتاج إليها للتكلم مع الشعب الذي سوف أجرّه إلى ثورتي. لا تطول حياة حلقة الإفرنج، لأن «البيان الشيوعي» نفسه ليس بالكتاب الكبير، أو ربما، أيضاً، لأن المسؤول عنا ضجر من صخبنا. هكذا «أعود» الى الحلقة التي تركتها، أنا وسامية، نصارع العربية بما تيسر لنا من فهم ونطق صحيح. ونجتاز امتحان «البيان الشيوعي»، بعدما نناقش الرفيق المسؤول بمحتوياته، خصوصاً جملته الأولى «هناك شبح يلاحق أوروبا، انه شبح الشيوعية»، التي تنفخنا بالثقة والقوة؛ أريد أن أرى هذا الشبح يصل إلى سمائنا. كيف يا رفيق؟ فيشرح لنا الرفيق الطرق الجديدة؛ نتصل بالعمال، نحرّضهم، نوعِّيهم على حقوقهم ودورهم، ننظمهم، يدخلون الى منظمتنا، نقودهم في معركة الصراع الأبدي، صراع الطبقات، ويكون شعارنا الجديد مأخوذ عن الجملة الأخيرة في «البيان الشيوعي»: «يا عمال العالم اتحدوا!». فنسبح في حلم مرهق جميل… حلم السوفيات، تلك المجالس الشعبية التي أنشأها الثوار الروس البلاشفة بعد ثورتهم المجيدة، والتي حققت القطيعة المطلوبة مع مصالح البرجوازية وأيديولوجيتها وطُرق إنتاجها.

بعد «البيان…»، وهو الكتاب الأول في مادة التثقيف الحزبي، يستمر البرنامج التثقيفي والنضالي: أولاً، علينا أن نفهم جيداً، وبعمق، معنى نظرية فائض القيمة الماركسية، التي هي أساس العمل المأجور، أساس البروليتاريا. دونها لا معنى لاتصالاتنا بالعمال، ومعها نكون جاهزين لذلك. فهذه النظرية التي تتبلور حولها كل الماركسية، تقوم على احتساب استغلال العمال من خلال حساب كل تكاليف الإنتاج، من أرض المصنع الى بنائه وتجهيزه بالآلات الخ… وعند انتهاء الحساب، القيمة المالية المتبقية وهي تكون مبلغا كبيراً، هي حق العمال الذي سرقه رب العمل، لأنه لولا قوة عملهم، لما اشتغل المصنع، ولا ربح صاحبه ما يربحه على حساب حياتهم وصحتهم ومستقبل أولادهم. فالعامل مسلوب الإرادة في هكذا وضع: أولاً لأنه مستغل بوضوح، ثم كون العمل الذي يقوم به غريب عن دواخله، عن ذاته؛ وانه، بدل أن يكمل العامل نفسه عبر العمل، ينكر ذاته، ينكر نفسه. وبدل أن يشعر بالرضى والاطمئنان، يعيش بشقاء وغربة لا يفارقانه إلا عندما يخرج من دائرة عمله… عندما يعود إلى بيته مرهقا، فينام.

بعد استيعابنا للدرس، يجب أن نكون جاهزين للنزول إلى المصانع، والاتصال بالعمال، وتوزيع منشور «صوت العمال» الذي تصدره منظمتنا، ودعوتهم إلى اجتماع سري، نشرح لهم نظرية فائض القيمة، فينضمون إلينا، وتكبر صفوفنا، ونصبح بذلك على قوَب قوسين أو أدنى من بناء المجتمع الشيوعي؛ مجتمع الحرية من كل قيد. طبعاً، نحن لا نعمل بالوتيرة المثالية هذه. فالاقتراب من العمال والتحدث معهم حول شؤونهم سوف يتسبّبان لنا بالكثير من المشاكل والطرائف. ولكنه سوف يبيِّن لي، لاحقاً، كم هي واسعة تلك الهوة بين النظرية والتطبيق، بين الحل، النموذجي دائماً، والتعقيدات، الواقعية أبداً.

ولكنني الآن مشغولة بمضمون نشرتنا العمالية، وبما يوصينا به الرفيق المسؤول من كلام، حول العمال المستهدفين. وهي كلها تدور حول مطالب نحتقرها عادة، مثل إزالة القانون خمسين، الذي يسمح بالصرف الكيفي، أو زيادة أجورهم أو أيام عطلهم، أو خفض ساعات عملهم، أو تأمينهم صحياً من حوادث العمل… وكلها مطالب يفترض اننا نحتقرها، لأننا ثوريون جذريون. نتعامل معها بنوع من الأنف، كأنها شيء «مرحلي»، «ثانوي«، سوف يزول، وما علينا الآن سوى تجرّعه، قبل بلوغ الثورة النهائية؛ فالانتقال من حرب التحرير الشعبية الشاملة، المسلحة، إلى محاولة إلغاء قانون الصرف الكيفي… هذا النزول من عرش الثورة المطلقة إلى حضيض المطالب الصغيرة؛ هذا التحول الجديد، هذا «التمحور العمالي» المتسارع، لا يجد من يسأل عن أسبابه، ولا من يطرح عليه تساؤلات؛ فالجميع مأخوذ بشدة حماه، أو بقرارات القيادة، أو بصحة الخط السياسي، الصحيح حتماً، والمطلوب منا الحفاظ على صحته.

نقطة أخرى تشغلني: حسناً، إذا وافقنا على انه هكذا تحصل الأمور في الأحزاب الحليفة، أو تلك التي ننسق معها؛ بأن يأتي يوم تتغير الاستراتيجيا فيها، لأن التكتيك لم يكن متوافقا. أقول لنفسي، حسنا… ولكنني لا استطيع تخيل كيف يمكننا ان ننتقل من تعبئة العمال على حقوقهم القليلة هذه، وبين الوصول الى المجتمع الشيوعي، كامل الحرية والعدالة. حتى لو دخل عمال كل المصانع في لجاننا العمالية وانتظموا في صفوف منظمتنا؛ حتى لو ضممنا اليهم الفلاحين، وصغار الكسَبة واستبعدنا منهم البروليتاريا الرثّة، التي تلعب لعبة الطبقة الرأسمالية المبتذلة… كيف يصبح نظامنا شيوعياً؟ بوصولنا الى البرلمان الذي نقاطعه هو وانتخاباته؟ أم بثورة مسلحة أخرى؟

عندما ألاحظ سقوط بعض الرفاق من قافلة ثورتنا، لا أستطيع الامتناع عن الاعتقاد بأنهم تركوا لأنهم لاحظوا الهوة القائمة بين الاثنين، بين عظمة الهدف الأخير وجبروته، وبين تواضع التوجه الجديد، المتمحوّر حول العمال، ومن بعدهم الفلاحين. أفكر بذلك من دون وضوح الفكرة، هي غائصة نائمة الآن في مكان ما في سريرتي؛ ويجب أن تبقى هناك. فأنا لا أوافق الرفاق التاركين. صحيح إن خللاً ما دخل علينا كلنا، بهذه التنقلات من حلقة إلى أخرى، وبهذا الخط الجديد؛ ولكنني أفكر أيضاً بأن لا بد ثمة حكمة خلف قرارات القيادة، أو من حساب تكتيكي، أو من رؤية بعيدة وقراءات جدية. فالساحة التي أعطيت لمنظمتنا شاسعة، ليست بكراً، سبقنا إليها الحزب الشيوعي اللبناني، المعروف بتحريفيته وإصلاحيته وانتهازيته؛ وكلها صفات واضحة بعيون العمال الذين لم يحقق لهم هذا الحزب شيئاً يذكر… حتى في بداياته، في عشرينات القرن الماضي. ولكنها ساحة من ذهب؛ الجماهيرية رأس مال منظمتنا.

(سؤال يطرح نفسه الآن، في هذه اللحظة، هو حول عدم تمكن المنظمة من الاحتفاظ بهذه الجماهيرية. فهي مع الوقت، أخذت تتقلص إلى أن بلغت الآن حدود الشلة الضيقة من الأوفياء لشبابهم. هل كانت هذه الساحة أوسع من أن تضمّها المنظمة إليها؟ أوسع، وأكثر تعقيدا؟ فيما منظمتنا لم تكن تملك وقتها لا التنظيم أو الأطر أو الاستراتيجية أو النظرية اللازمين لإنجاح هذا الضمّ؟ هل هي الحرب الأهلية، بعد ذلك بسنوات قليلة، التي أوقفت اندفاعتها؟ باختصار، هل كانت أسباباً موضوعية، خارجة عن إرادة لاعبيها، الكبار والصغار؟ إرادة أقوى منهم؟ تتعلق بالسياقات أو «الظروف» أو إرادات «رجعية»، شريرة بالضرورة؟ أم هي أسباب ذاتية، تتعلق بطبائع وأصول ونشأة وثقافة، خصوصا ثقافة، وجدية وطموحات الرفاق الذين خاضوا بها؟ هل كانت هذه الطبائع والأصول… كلها «دون» تطلعاتهم؟ هل كانوا «أقزاماً» أمام عملقة التاريخ؟ حاولوا ركوب موجته العالية، فارتدوا إلى شواطئه، مبعثرين، محبطين، متراجعين، لاهثين؟ أم السببين معاً؟ شيء من القدر وشيء آخر من الحرية؟ أو أن القدر صنع الحرية، ثم أحبطها؟ فيما الحرية منحت للقدر معنى تقلباته العمياء، وكسته بلباس الأيديولوجيا؟).

السابق
حزب الله يشيّع غداً في بعلبك أحد عناصره
التالي
كولومبيا للكونغ فو: إصابة نيمار.. إلى خارج المونديال